Ads Ads Ads Ads

مهارة كتابة إنشاء أدبي حول نص شعري – دروس التعبير والإنشاء – اللغة العربية – اداب وعلوم انسانية

عنوان الدرس : مهارة كتابة إنشاء أدبي حول نص شعري

المادة : دروس التعبير والإنشاء – اللغة العربية

الشعبة: اداب وعلوم انسانية

المسالك: مسلك اداب ومسلك علوم انسانية

جرد المعطيات

عتبات النــص

طرح الإشكالية وبناء الفرضية:

  • وضع النص في سياقه التاريخي والأدبي أو الفني ، قصـد تحديد الاتجاه الأدبي الذي ينتمي إليه ، وهو ـ هنا ـ إحياء النموذج.، و حافظ إبراهيم أحد رواده، لُقب بشاعر النيل لارتباطه بقضايا الشعب و رصده لأحواله المختلفة ..
  • من خلال الإشارة إلى مناسبة النص وبدايته نفترض أن يكون موضوعه هو الرثاء. ويتبيَّن من خلال الملاحظة البصرية لهندسة القصيدة أنها عمودية ذات نمط تقليدي إذ تعتمد نظام الشطرين المتوازيين والوحدة في الروي والقافية..

فمـا مظاهر تمثيل النص لحركة إحياء النموذج ؟ – أو – ما حدود النموذج الشعري وخصائصه المختلفة التي يتمثلها نص حافظ إبراهيم ؟ وما الجوانب والأبعاد الدلالية والفنية التي يعكسهـا ؟

تفكيك النص

الخطوة الأساس

في هذه المرحلة، هي: اكتشاف معاني النص أو تحديد محتوياته، ويتطلّب ذلك رصد موضوعه العام أو المحوري، و جرْد أفكاره الأساسية..( في النص المدروس: تأثر الشاعر بفاجعة موت البارودي، والإشادة بخصاله الحميدة ، فالنص إذن يندرج ضمن غرض الرثاء..)

الخطوة الثانية

تصنيف معجم النص إلى الحقول الدلالية المناسبة ( هنا : حقل الحزن على الفقيد: إني عييت، مجهودي، غضبى،لا تطاوعني، سكوتي، همّ، تسهيد، الخطب، أفحمني ،معقود،مكبود، مفؤود/ وحقل مناقب الفقيد : مؤنس الموتى،فارس الشعر والهيجاء والجود، لياليك البيض،لم تحفل بموجود، السلاسة في منطقه، خير من هز اليراع،هز الحسام،لبى،نودي..) مع تبيُّن الحقل المهيمن وتعليل الأسباب.

لغة تراثية، تصويرية فيها مبالغة في شحن الجو الحزين وتعظيم الفقيد مما يتناسب ونموذج الرثاء الكلاسيكي.

الخطوة الثالثة

الكشف عن خصائص البنية الإيقاعية في النص(وزن،روي قافية، تواز ، تكرار، تقديم تأخير… ) . في النص إيقاع خليلي محافظ على وحدة الوزن والقافية والتناظر الشطري واستقلال البيت وتصريع المطلع، تضخيم الموسيقى الحزينة عبر آليات النكرار والتوازي

الخطوة الرابعة

الصـور الشعريـة: طبيعتها، وظيفتها … استثمار للآليات التصويرية البيانية بخصائصها المعيارية خاصة التشبيه والاستعارة

الخطوة الخامسة

الأسلـوب خصائصه هيمنة الجمل الخبرية والجمل الفعلية رغم التصدير بالإنشاء ( الأمر المفيد للتحسر والاستفهام الإنكاري) وإيراد النداء على مساحات نصية متوازنة، وتنويع الضمائر بين المخاطب والغائب. كل ذلك ينسجم مع طبيعة الرثاء القائم على تهويل الفاجعة وتصوير فداحة الغياب.

الاستنتاج والتقويم

تجميع نتائج التحليل – الكشف عن مقصدية النص واتجاه القصيدة الفني (غرض الرثاء جاء مصطبغا بصبغة تقليدية، احتوته قصيدة ذات مقومات شكلية قديمة، دأبت على اعتمادها حركة إحياء النموذج الشعري العربي القديم، وعبرت عنه مضامين اقتفت آثاره القديمة باعتباره تلهفا من جهة، وتأبينا للميت من جهة أخرى، ومقصدية الشاعر تجسد وفاءه لمذهبه الشعري إحياء النموذج خاصة والأمر يتعلق بتخليد غياب فحل من فحوله.

تنظيم المعطيات

يتبيّن أن كتابة إنشاء أدبي حول نص شعري تستدعي الخطوات الآتية :

  • الوقوف عند عتبات النص: وضع الإشكالية ـ طرح الفرضية من خلال مشيرات معيَّنة : العنوان، أبيات محددة ، صاحب النص ، المرجع ، الملاحظة البصرية لهندسة القصيدة …
  • تحديد مضمون النص بالكشف عن معانيه و جرد أفكاره الأساسية
  • تحديد نوعيته: أهو موضوع واحد ، متعدد، قديم ، جديد، ذاتي ، غيري، اجتماعي ، قومي ، وطني ، ديني ، سياسي ، إنساني ..
  • تحديد حقوله الدلالية وتبيان التيمة/ التيمات المهيمنة مع التعليل ..
  • طبيعة البنية الإيقاعية الخارجية ( الوزن ، القافية ، الروي .. ) والداخلية ( توازٍ ، تكرار..)
  • تحليل الصور الشعرية و تبيان طبيعتها قائمة على المشابهة ( تشابيه،مجازات، استعارات) أو على المجاورة ( كنايات ..) مع التفسير و بيان الوظيفة في السياق الواردة فيه
  • خصائص الأسلوب : مباشر، تقريري، إخباري، إنشائي، تصويري، انزياحات، رموز.. / طبيعة الجمل والتراكيب : طويلة، قصيرة، فعلية ، اسمية،/ الضمائر: وحدتها ، تعددها… مع التعليل والاستشهاد ..
  • تجميع نتائج التحليل السابق في عبارات موجزة ، مع حكم نقدي حول النص ، أو صاحبه ، أو التيار الذي ينتمي إليه.

تجديد الرؤيا نموذج شعري – تحليل قصيدة ‘البئر المهجورة’ ليوسف الخال دروس النصوص

عنوان الدرس : تجديد الرؤيا (نموذج شعري) – تحليل قصيدة ‘البئر المهجورة’ ليوسف الخال

المادة : دروس النصوص – اللغة العربية

الشعبة: اداب وعلوم انسانية

المسالك: مسلك اداب ومسلك علوم انسانية

إشكالية النص وفرضيات القراءة

إن التحول الذي عرفه الشعر لم يقف عند التمرد على الثوابت العروضية كما كان ديدن أصحاب تكسير البنية. بل تجاوز ذلك إلى إرساء أفق رؤيوي جديد يضمن ديمومة المشروع الحداثي الشعري، أفق يقوم على مفهوم الرؤيا باعتباره كشفا متجددا لعالم في حاجة دائما إلى كشف وثورة، ومن ثم ينعدم النموذج الشعري. ولا سبيل إلى الرؤيا بغير التخطي والتجاوز والانفتاح على التجارب العالمية وإعادة قراءة التراث الإنساني بمنظور جديد. وإذا كانت القراءة النصية الأفقية غالبا ما تتخذ مطية لإثبات تصور مسبق أو معيار ثابت، فإن قراءتنا للبئر المهجورة ليوسف الخال لن تتجه نحو نفس المقصد، بل ترصد التضاريس الفنية المميزة لهذا الممتد الشعري على مستويات عدة اعتبارا لكون النص لحمة متماسكة من علاقات تفاعلية بين عناصر سطحية وعميقة.

تفضي الملاحظة الأولية لشكل النص إلى إدراجه ضمن الخطابات الشعرية المتمردة على الثوابت (تجديد الرؤيا). فما حدود هذا التمرد ؟ وما تجلياته ؟ الجواب رهين بمقاربة القصيدة في جميع مستوياتها. وأول ما يثيرنا عنوانها، وهي إثارة تؤول إلى مفارقة كامنة داخله يفرزها التداعي. فالبئر في الموروث الثقافي ترمز إلى الحياة لوجود الماء، وإلى الإخفاء لعمقها الملتبس بالإيجاب أو السلب، إلا أن وصفها بالمهجورة يجعلها مناسبة للإخفاء والستر. ألم يتخذ أبناء يعقوب البئر مكانا لإخفاء النبي يوسف عليه السلام فكانت محنته الأولى. وعلى أساس هذه المحنة يمكن افتراض مأساوية التجربة التي قد يعبر عنها يوسف الخال. فما دواعي هذه المأساوية بناء على هذا الافتراض ؟

فهم النص

يمكن تقسيم هذه القصيدة الى 4 مقاطع بحسب الاصوات المستعملة فيها:

  • مقطع على لسان الراوي (أوّل 5 اسطر)، يشرح فيه علاقته بالشخصية التي تدور حولها القصيدة وهي شخصية ابراهيم. ويلاحظ هنا التنافر والاصطدام بين ابراهيم الذي يصوره الشاعر بئراً يفيض ماؤها دلالة على العطاء والخير، وبين سائر البشر الذين لا يعيرونها ادنى اهتمام ايجابياً كان او سلبياً.
  • مقطع على لسان ابراهيم يتخلله تعليق قصير للراوي يبدأ بقول ابراهيم : “لو كان لي ان انشر الجبيين …” ويمتد الى قوله :”… ليبصر الطريقة” (22 سطراً)، وفيه ينقل الراوي الينا حديثاً مباشراً لابراهيم في رسالة كتبها ابراهيم بدمه الطليل كما يقول الراوي. وتبرز هنا رؤيا ابراهيم واحلامه في تغيير الواقع والوجود من خلال تساؤلات تشمل الطبيعة، وعلاقة الانسان بالطبيعة وحياة الانسان كمركز للوجود. وتكشف هذه التساؤلات ان احلام ابراهيم كبيرة ويتطلب تحقيقها تفجيير امكانات خارقة للمألوف.
  • مقطع على لسان الراوي يتخلله حديث مباشر بصوت مجهول يبدأ بقول الراوي : ” وحين صوب العدو مدفع الردى” ويمتد الى قوله “… لعله جنون ” (16 سطراً)، وفي هذا المقطع يتحدث الراوي عن (ابراهيم) ومن معه من الجنود الذين يواجهون سيلا من رصاص العدو فيصيح بهم صوت مجهول ان يتقهقروا الى الوراء. فيتقهقر الجميع الا ابراهيم الذي ظل سائراً الى الامام متحدياً الرصاص، واذ سقط ابراهيم يقول الآخرون كما يورد الراوي: انه الجنون، ويعلق :لعله الجنون. نلاحظ في هذا المقطع تكرار: “تقهقروا” مرتين في موضعين: الأول:صوت مجهول،والثاني: صدى الصوت الأول. كذلك نلاحظ تكرار ( لكن ابراهيم ظل ساهراً) في موضعين، وذلك تأكيداً على ان ابراهيم لم يعر التحذير اهتماماً ولم يبالِ بالموت.
  • مقطع على لسان الراوي ويبدأ بقوله: “لكنني عرفت جاري العزيز…” ويمتد الى نهاية القصيدة: “… ترمي بها حجر” (6 اسطر)، وهو يشكل اعادة لكلمات المقطع الأول مما يعطي القصيدة شكلاً دائرياً لا مغلقاً، وهو شكل مستحب عند الكثيرين من انصار الشعر الحديث ومتبع لديهم.

تعلن القصيدة في مدخلها عن العلاقة الحميمية بين الذات وإبراهيم باعتباره شخصية محورية تنجز الفعل وتحققه دون تراجع. إبراهيم إنسان عادي، يحمل اسمه ايحاء دينيا وتاريخيا مستمدا من النبي إبراهيم الذي صدق الرؤيا وعزم على تنفيذها، ومستمدا من المسيح المخلص بحسب عقيدة المسيحيين. إن ما يميز إبراهيم داخل عالم القصيدة هو علاقاته بالآخرين، فهو مصدر الحياة والعطاء في صحراء تنعدم فيها شروط الحياة، لكن الآخرين لا يهتمون به نفس اهتمامه بهم، فالعلاقة غير متعادلة. إذ رغم كونه يمنحهم الحياة باعتباره البئر التي يفيض ماؤها يكن له الآخرون اللامبالاة وينعتونه بالجنون.

في الوحدة الثانية تنمو القصيدة وتتطور عبر التركيز على إبراهيم مرة أخرى، وفعل التضحية الفردي يؤشر عليه بتكرار الفعل المشروط: لو كان لي….. الذي يقدم عليه لبعث الجماعة الميتة. إبراهيم هنا هو المسيح الذي يفدي العالم بموته ما دام يشعر بمسؤوليته تجاه الآخرين. إن إبراهيم هنا ليس من أجل استمرار الحياة فحسب بل لتغييرها إلى الأفضل. ومن مظاهر هذا التغيير تحول الطبيعة التي لن تعرف غير الربيع وتحول العقبان عن طبيعتها الافتراسية فيعم السلام والأمن وتسترجع المعامل والشوارع والحقول طبيعتها الحية التي فقدها الإنسان المعاصر، كما يسترجع الإنسان كرامته ويعود الضال التائه إلى أرض معاده. ولعل هذه المبادئ الحياةألسلمألكرامةءمحو الخطيئة هي المبادئ التي ضحى من أجلها المسيح قديما ويضحي من أجلها إبراهيم راهنا فإبراهيم هو مخلص الإنسان حديثا. إن هذه المتمنيات التي صيغت عبر استفهامات ستتحول إلى واقع في الوحدة الثالثة حين واجه إبراهيم الرصاص والموت ورماه الآخرون بالجنون.

تحليل النص

المعجم

تأسيسا على القراءة الأفقية السابقة يجوز توزيع مؤشرات المعجم الشعري إلى حقلين دلالين:

معجم الحياةمعجم الموت
يفيض ماؤها – تبرعم الغصون في الخريف – يحول الغدير سيره – ينعقد الثمرء يطلع النبات في الحجر – أن أعيش من جديد – لا تمزق العقبان قوافل الضحايا – يأكل الفقير خبز يومه بعرق الجبين – يعود يولسيس – يبصر الطريق…أنشر الجبين على سارية الضياء من جديد – دمه – أن أموت من جديد – دمعة الذليل – العدو – مدافع الردى – الرصاص – لم يسمع الصدى – ظل سائرا…

وانطلاقا من هذا التصنيف للحقلين الدلالين تبدو الخلفية الكامنة وراء تشكيل الرؤيا دينية متمثلة في إبراهيم والمسيح، وربما موسى باستحضار علاقته بابنتي شعيب لحظة السقيا من البئر، والفلسفة الوجودية باعتبارها مرجعية مجلة شعر. إن الرموز هنا تمثل الغربة والافتداء والموت الفردي من أجل الجماعة. وهي تمثل كذلك قيما ومواقف ورؤى تصب كلها في رفض الزمان والمكان والثقافة والمجتمع وتتطلع إلى بديل آخر، إنها تحمل تناقضا وجوديا بين ذاتها العازمة على اختيار تجربتها المتميزة وبين المجتمع الذي يحاول أن يخضع هذه الذات القلقة لقيمه. إن ما يميز المواد المعجمية هو قربها من الحياة اليومية رغبة من الشاعر في الزج بالقصيدة في ما يمكن أن نسميه ‘المتداول المعجمي المألوڤ. وهذا متناسب مع دعوة الخال الشهيرة إلى استخدام اللغة المحكية في المتن الشعري باعتبارها لغة الحياة والناس، فيما الفصحى في نظره لغة متعالية، ميتة تتمدد، باسترخاء الجثة، في قبرها التاريخي حسب تعبيره.

الصور الشعرية

على مستوى الصور الشعرية يبدو أن يوسف الخال وجد في الصورة متنفساً للهروب من سلطة اللغة عبر الانزياحات الدلالية والرمز والأسطورة التي مثلت من جهة قدرة الشاعر على اختراق اللغة وتفجيرها وشحنها بتداعيات جديدة خارج المحمول الإشاري الجاهز. ومن جهة ثانية كشفت عن الرؤيا الشعرية الجامعة بين خاصيتين، خاصية الاقتراب من المألوف المعجمي، وخاصية الكثافة الدلالية المتولدة عن الانزياح والرمز والأسطورة. وتأسيسا على هذا أصبحت الوظائف الممكنة للصورة الشعرية تغريبية وبنيوية:” يحول الغدير سيره كأن تبرعم الغصون في الخريف”. فإذا كانت الوظيفة البنيوية للصورة الشعرية تتمثل في المشاركة الفعلية للمتلقي في بناء القصيدة بناء عضوياً اعتمادا على تأويل الرموز والأساطير فإن التغريب يؤول إلى المفارقات ا لبعيدة بين مكونات الصورة التي يمنحها التأويل انسجامها. ولننظر مثلا إلى جمع الشاعر بين المتنافر في قوله “أتضحك المعامل الدخان؟”. إذ الدلالات السياقية للدخان السوداوية والمعاناة، والمحمول الفعلي “تضحك” يدل وفق المألوف على الانتشاء، غير أن الانسجام يتحقق بحمل الضحك على السخرية….

ورغم كثرة الصور وتراكمها في القصيدة فإننا يمكن أن نكثفها في دلالتي النبوة والتضحية، حيث تحضر الذات الشاعرة كنبي وضحية في نفس الآن: تستشرف المستقبل وتبشر به، ويقف المجتمع ضدها ويضطهدها كما اضطهد الأنبياء. ولما فشلت الذات/ الرمز في تحقيق مشروعها انعزلت وانطوت على ذاتها بتخطي الواقع والمجتمع مستبدلة إياه بالرؤيا الميتافيزيقية، ومن سمات هذه الرؤيا الرفض والغربة والنفي والوحدة والحرمان والاضطهاد، وما هذه السمات إلا مظهر من مظاهر الخلفية الفلسفية الوجودية، ناهيك عن قرار اختيار الذات نفسها مرجعا للتمثلات والقناعات، فإبراهيم لم يستجب لنداء الجماعة، ولم يفضل ما فضله رفاقه من العودة إلى الوراء؛ لأن مصدر معرفته اليقينية ذاته، ووجب عليه أن يعيش هذه المعرفة كتجربة حياتية فيختار طريق الجنون من منظور الآخرين، طريق الحياة من منظوره هو، فوقع فريسة الاغتراب الناتج عن انعدام التواصل وعن الانفصال والتعارض الذي لم يقتصر على الذات والآخر، بل تجاوز ذلك إلى التعارض بين حضارة الصحراء المرفوضة وحضارة الماء المأمولة. وهذا الكشف الشعري ليس كله تخييلا، بل ينبني على مرجعية إيديولوجية تكمن في المشروع القومي الحداثي، فالماء والصحراء رمزان لحضارتين متعارضتين حضارة العرب وحضارة الغرب المتوسطية.

الأسلوب

إن الشرخ الهائل بين الذات والعناصر المؤثثة للفضاء الشعري من جماد وإنسان ترسم قسماته قصيدة البئر المهجورة مستعيرة الرمز والأسطورة: إبراهيم – المسيح – أوليسء أوديب – الخروف. ووجود البئر في الصحراء كبشير خير وبركة يقوي التداخل العميق بين النص المقدس (المتن الديني) وبين القصيدة تداخلا تذوب داخله تفاصيل أحداث المحكي الأصلي (التقابل بين إبراهيم النبي/خليل الله وإبراهيم المضحي/خليل الشاعر. المسيح المصلوب وإبراهيم المصلوب على سارية الضياء رغبة في تحقيق العدل وتحقيق التطهير). وتتحكم في بنية التصوير وجدلية العلاقات حركتان: تتجسد الأولى في صورة إبراهيم قبل التضحية والثانية بعد التضحية وما نتج عنهما من تحولات في الرؤى والمواقف من لامبالاة إلى اندهاش. فالحركة الأولى تأسست على أساليب الرجاء (إمكان التحقق) والتمني (استحالة التحقق). لقد تواترت العبارة “لوكان لي” خمس مرات تارة تتعلق بالتضحية وتارة بالافتداء مؤسسة رغبة في الفعل(الإرادة) ومخمنة ما يترتب عن الفعل المأمول من تحول يمس الطبيعة الناطقة والصامتة ويمس الحضارة والإنسان. لقد تحول المعجز من إطار الغيب إلى الإطار الإنساني من تضحية إبراهيم بابنه استجابة لأمر الله إلى تضحية إبراهيم بنفسه لمحو الظلم ونشر العدل والمحبة والسعادة. وفي إطار المتن الديني دائما تماهت الشخصية المركزية من جديد مع المسيح تعبيرا عن الخلاص ومحو الخطايا.

واقترن المسيح في هذا التشكيل باستحضار أوليس البطل الميثولوجي الذي يعاني عذاباً شديداً على المستوى النفسي والجسدي والذهني ويجتاز المهالك منذ مستهل رحلته حتى يحقق هدفه النهائي، ويؤوب منتصراً إلى المكان الذي انطلق منه. أما الحركة الثانية فانتقال من القول إلى الفعل وتأكيد حضور الذات لحظة المواجهة والتصدي والاستشهاد ونكوص الآخرين، ومع ذلك لم يكن محل تقدير من قومه. وانطلاقا من هنا يبدو البناء العضوي للقصيدة الذي ساهمت متماسكا بفعل الكثير من العناصر، من بينها الأساليب الموظفة والضمائر والإيقاع الخارجي والداخلي.

على مستوى التركيب النحوي والتداولي نوع النص بين الخبري الابتدائي والإنشاء عبر صيغ غاب فيها المحتوى القضوي المباشر وحضرت فيه القوة الإنجازية الاستلزامية المرتبطة بالرؤيا الكامنة خلف المواد المعجمية والتشكيل التركيبي وطوابعهما الإشارية الموحية والغامضة التي تصب في التطلعات المتعلقة بتثبيت القيم الإنسانية النبيلة وثراء الحياة وخصبها، كالاستفهام في قول الشاعر: ” ترى ، يحول الغدير سيره…ويطلع النبات في الحجر؟” أتبسط السماء وجهها فلا تمزق العقبان في الفلاة قوافل الضحايا؟… ” والتمني “لو كان لي أن أموت أن أعيش من جديد” فقد حافظ الشاعر فيهما على معنى الاستحالة وإن كان يرتبط بالرغبة والإرادة في الفعل، والأمر «تقهقروا، تقهقروا”. الصادر عن آمر مجهول وكأنه الصوت الخفي الذي يسيطر على الآخرين ويشكل لديهم الثابت الذي لا يمكن التمرد عليه باستثناء إبراهيم. ورافق هذا التنويع في الأسلوب تنويع في الجمل الفعلية بين الحاضر والمستقبل وبين الماضي. وإذا كان الماضي يحدد زمن علاقة السارد بإبراهيم الضاربة في القدم، والمصير الذي آل إليه، فإن المضارع يعلن عن التحول المأمول ويمثل الحلم ويبشر بالغد الأفضل. وبما أن ضمير المتكلم يحيل على إبراهيم وضمير الغائب يحيل على السارد ويتبادل الفاعلان المواقع فيصير المتكلم ساردا والغائب الحاضر إبراهيم فإن الخطاب الشعري استنادا إلى الضميرين المتعاضدين يحمل الوظيفة التعبيرية الانفعالية والوظيفة المرجعية، إلا أنهما ليستا مهيمنتين بل مجرد جسر للوظيفة الجمالية الطاغية التي تحققها الصور الشعرية والتموجات الإيقاعية

الإيقاع

على مستوى الإيقاع استنجد الشاعر بتفعيلات الرجز كإطار موسيقي إلا أنه انزاح فيه كثيرا عن الصور الأصلية ليشاكل التدفق النغمي المناسب لتشكل الرؤيا في النص. وللتوضيح نورد الأسطر الشعرية الأولى مفاعلن مستفعلن مفاعلن مفاعلاتن مفاعلن مستفعلن مفاعلن مفاعلن فعل مفاعلن مفاعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن فعل.لقد اكتسبت القصيدة بنيتها الإيقاعية من تكرار صور (مستفعلن) في غير التزام بضوابط العروض و تكرار المقاطع وتكرر اللفظ (عرفت) والجملة ( لوكان لي أن ) وأصوات مثل الراء في الأسطر الشعرية الأولى فهي تحضر تقريبا في كل الكلمات الأولى ، واستثمار التوازي(الاستفهام + الفعل + الفاعل…) وعلامات الترقيم والبياض بما يخدم الموسيقى والتركيب والدلالة والقراءة والدفقات الشعورية في علاقتها بالوقفات الثلاثة وقد أحصينا نسبة تشغيل الفاصلة في النص فبلغت اربعا وعشرين مرة بينما النقطة لم تتجاوز عشر مرات. إن الفاصلة داخل النص تؤشر على أن البنية النظمية (التركيب النحوي) لم تكتمل بعد أو اكتملت غير أنها تشترك مع ما يعقبها في الحكم دلالة وتركيبا مما يؤمن الانسياب والاسترسال بين الأسطر الشعرية، كما تؤشر على التعارض بين مقتضيات العروض ومقتضيات التركيب والدلالة ، وتلك صفه من صفات اللغة الشعرية، إذ غالبا ما تتزامن الوقفة الوزنية مع البياض الدلالي أو الوقفة النظمية النسبية التي تؤشر عليها الفاصلة. وفي هذا المقام يحضر التقابل بين الوصل والفصل. أما النقطة والبياض فيحققان وظائف متنوعة بدء بالتأشير على تمام المعنى وإفادته إلى التأشير على نهاية المقاطع. وقد تضافرت علامتا الاستفهام والتعجب مع النقطة لأداء هذه الوظائف المتعددة. ومن المفيد أيضا، أن نشير الى أن النقطة غالبا ما تسم الأسطر الشعرية بالاتساق ويقصد به هنا اتحاد الوقفات.

إضافة إلى هذه المكونات هناك تداخل الخطابات في النص ولعل الخطاب القصصي حاضر في القصيدة بشكل بارز. ويتجسد في البناء الدرامي باعتباره جسما متكاملا في حد ذاته ،ويتشكل من عناصر متناسقة كل منها يقوم بدوره في مرحلة معينة(البداية /العقدة/النهاية) الأمر الذي يتيح النمو والحركة باتجاه المصير والمآل. والسارد والبطل المأساوي والحوار الداخلي والحوار الخارجي والسرد والوصف علامات دالة في النص.

تركيب وتقويم

نخلص من كل هذا إلى أن هذه القصيدة اغتنت بعوالم تخييلية بفعل محاورة النصوص الدينية والأسطورة والتراث الأدبي مما مكن من تفجير الأسئلة الوجودية. وأصبح المنسي يأخذ حضوره وراهينته من تداعيات المعنى المسكوب في إيحاء الإيقاع وشغب الصور واندلاق الدلالة مما عقد عملية ملاحقة تفاصيل الرؤيا في النص والتي يبدو أنها غير محدودة. وقد جسد الشاعر من خلال هذه القصيدة تصوره الحداثي للشعر المتجه نحو فلسفة الهدم والتمرد والانقلاب على الجاهز والثابث والمألوف وإعادة تركيب معطى جديد من المواد المهدومة والمهضومة بما يضمن الإبداع والتميز والقوة دون قطيعة مع الموروث الإنساني

تجديد الرؤيا (نص نظري) – تحليل نص ‘قصيدة الرؤيا’ لعلي أحمد سعيد أدونيس دروس النصوص

عنوان الدرس : تجديد الرؤيا (نص نظري) – تحليل نص ‘قصيدة الرؤيا’ لعلي أحمد سعيد أدونيس

المادة : دروس النصوص – اللغة العربية

الشعبة: اداب وعلوم انسانية

المسالك: مسلك اداب ومسلك علوم انسانية

إشكالية النص وفرضيات القراءة

توالت حركات التجديد الشعرية لتمنح الشعر في كل مرة مفهوما يخرق مكونات البناء الشعري الجاهز، ولم يقف التنظير للشعر وإبداعه عند تكسير بنيته، بل شمل مضامينه ورؤاه. فأصبحت القصيدة رؤيا تتطور تبعا لنمو الحقل الشعري وكثافته ودرجة انفتاحه على العالم، ومستوى ثرائه وقدرته على التغيير والتعبير عن الوجود، بحيث يتلاحم الحلم والواقع والرمز والأسطورة.

ولإضاءة شعر الرؤيا برزت دراسات نقدية عديدة حاولت توصيفه وتمييزه عن شعر تكسير البنية. ومنها أبحاث حسن مخافي في كتابه ” القصيدة الرؤيا” ومحمد الفارس في ” الرؤيا الإبداعية في شعر صلاح عبد الصبور” وإدريس الزمراني في ” أفق الرؤيا : مقاربات في النص والإبداع” وأحمد رحماني في ” الرؤيا والتشكيل في الأدب المعاصر” ثم صبحي محيي الدين في ” الرؤيا في شعر البياتي”. ويعد أدونيس أول من أصل مفهوم قصيدة الرؤيا في النقد العربي. ولد بسوريا سنة 1930. نشأ في بيئة صوفية درزية تؤمن بنظرية التجلي والحلول، غزير الثقافة عربية وغربية، متأثر بمدرسة فرانكفورت الألمانية والشعر الرمزي والسوريالي والظاهراتية وغيرها. وقد شكلت مجلة ” شعر “، التي أسسها مع يوسف الخال، منطلق تصوره للشعر الجديد،. وعلى المستوى النقدي استلهم مفهوم الحداثة، ونبش عن جذوره في الشعر العربي، وأعاد النظر في العديد من المسلمات النقدية والأدبية. أنتج مؤلفات نقدية عدة مثل: (الثابت والمتحول ـ الشعرية العربية ـ مقدمة للشعر العربي..). ودواوين شعرية مثل: (قصائد أولى ـ هذا هو اسمي ـ مفرد بصيغة الجمع..). والنص الذي بين أيدينا من كتابه: ” زمن الشعر “. فما القضية التي يطرحها؟ وما مفاهيمها وإطارها المرجعي ؟

”قصيدة الرؤيا” مركب إضافي يفصح عبره العنوان عن علاقة استلزام واقتضاء شديدين بين المضاف والمضاف إليه، ويوحي بالتطور الذي عرفته القصيدة المعاصرة من خلخلة محتشمة على مستوى الصياغة الشكلية والخريطة الإيقاعية في تكسير البنية إلى هدم جذري وإعادة بناء للنص الشعري تتحدد فيه بنياته الشكلية والمضمونية في كل تجربة بما يصنع ماهية جديدة ورؤيا متجددة. وتتضمن الجملة الأولى في النص “لعل خير ما نعرف به الشعر هو أنه رؤيا ” مفهوما مركزيا (الرؤيا)، يرتبط بدلالة العنوان من خلال الإشارة إلى طبيعة قصيدة الرؤيا وهويتها. ومن خلال المشيرات السابقة نفترض أن الإشكالية المطروحة في النص تتعلق بمفهوم الرؤيا في الشعر المعاصر، وأن الفرضية التي يمكن الانطلاق منها هي أن الرؤيا في القصيدة الحديثة مرتهنة إلى خاصية الكشف والتمرد.

فهم النص

يمكن تقسيم النص للفقرات التالية :

  • الفقرة الاولى : تعريف الشعر الجديد: هو رؤيا تعتبر تغييرا في نظام الأشياء.
  • الفقرة الثانية : الشعر الجديد معرفة لها قوانينها الخاصة : انه إحساس كشفي لجوهر الإنسان عن طريق الخيال والحلم.
  • الفقرة الثالثة : توجهات الشعر الجديد: الشعر الجديد يبطل أن يكون شعر وقائع، الشعر الجديد يبتعد عن الجزئية ،انه رؤيا للعالم، الشعر الجديد يتخلى عن الرؤية الأفقية، الشعر الجديد يتخلى عن التفكك البنائي.
  • الفقرة الرابعة : عالم الشعر الجديد، كشف لما هو غير مألوف.
  • الفقرة الخامسة : الشعر الجديد كشف ورؤيا.

عرف الكاتب الشعر الجديد بكونه رؤيا، إي تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها، وتمرد على الأشكال والطرق القديمة، إنه “كشف عن عالم يظل أبدا في حاجة إلى الكشف”. والشاعر الجديد قلق متمرد متميز في الخلق، وشعره مركز استقطاب لمشكلات كيانية يعانيها في حضارته وفي نفسه. والشعر الجديد نوع من المعرفة الباطنية، وإحساس شامل بالحضور، ودعوة لوضع الظواهر موضع البحث والشك، وإحساس كشفي بالأشياء يطال جوهرها الذي لا يدرك بالعقل والمنطق، بل بالخيال والحلم. ويتميز شعر الرؤيا عن شعر الحادثة والوقائع بتناول الظواهر الأكثر ثباتا وديمومة، والأقل ارتباطا بالزمان والمكان، فهو في غير حاجة إلى مواد محسوسة.

وقد عرض الناقد السمات المميزة لشعر الرؤيا كالآتي:

  • أنه يفرغ الكلمة من ثقلها القديم، ويشحنها بدلالات غير مطروقة.
  • أنه رؤيا للعالم تتجنب النظرة الجزئية، والإصلاحية الوعظية المباشرة، وتنخرط في رؤيا شاملة تستقطب كل حقول الفكر.
  • أنه لا يعبر عن رؤيا أفقية سردية ووصفية، بل يتجاوز السطح، ويغوص فيما وراء الظواهر، ويكشف عن حيوية العالم وطاقاته المتجددة، فيتحد معه.
  • أنه يستعيض عن التفكك البنائي، وعن التشابيه والاستعارات بالصورة التركيبية: الصورة ـ الرمز، أو الصورة ـ الشيء.
  • أنه شكل جديد من وجود جديد، أي بناء فني وتعبير جديد، أي ماهية (رؤيا) وشكل. والشعر الجديد باعتباره كشفا ورؤيا غامض، متردد، لا منطقي، في حاجة دائمة إلى حرية في التبنين، ولكن دون الوقوع في فوضى الشكل، لأن الشكل غير مهم بقدر ماهي وظيفة الممارسة الشعرية.

تحليل النص

الإشكالية المطروحة

يطرح النص إشكالية قصيدة الرؤيا باعتبارها تغييرا في مفهوم الشعر، وفي علاقة الشاعر بذاته وبالعالم من حوله، مفهوم يعارض النظرة التقليدية الموسومة بالجزئية والأفقية، والعالم الذي تخلقه هذه القصيدة / الرؤيا هو عالم الكشف والاستشراف بما تملكه هذه القصيدة من إمكانات تخييلية وطاقات معرفية مستكشفة مستكنهة، وطاقات تعبيرية تثويرية تفجيرية خلاقة.

المفاهيم والقضايا

استمد  الكاتب مصطلحات ومفاهيم دراسته للشعر الجديد من أربعة حقول معرفية مختلفة من حيث مرجعياتها:

الحقل الأدبي والنقديالشعر الجديد – الطرق الشعرية القديمة – الشاعر الجديد – الحادثة…
الحقل النفسيرؤيا نفسه – الذات – إحساس – الخيال – الحلم…
الحقل الفلسفينظام الأشياء – الكشف عن العالم – قلق الإنسان – الخلق –مشكلات كيانية – المعرفة – العلم ميتافيزيائية – العقل – المنطق…

تهيمن المصطلحات والمفاهيم الفلسفية لأن الكاتب في سياق عرض الفلسفة الجديدة التي يقوم عليها الشعر الجديد. وهي مصطلحات ومفاهيم ستؤسس للنقد والأدب كمؤطرين للقصيدة الرؤيا. والظاهر أن الحقل الفلسفي في النص في خدمة النقد، لأنه يسهم في توضيح مقارنات الكاتب بين مفهومي الشعر الجديد والقديم. وبما أن مفهوم الرؤيا مركزي في النص، فإن الكاتب أضاءه بمجموعة من المفاهيم مثل:

  • تمرد : ويعني الثورة على المعطى الجاهز والمغلق والمحدود ،
  • تجاوز : ويعني تجاهل المظاهر السطحية للأشياء، وتجاوز الواقع المقيد بالزمان والمكان، وتجاوز الحادثة العارضة إلى الظاهرة الثابتة وأسرارها العميقة.
  • استشراف : ويعني قدرة الشعر الجديد على التنبؤ.
  • كشف : معرفة ميتافيزيقية تحس بالأشياء كما هي في جوهرها وصميمها غير المدركين بالعقل والمنطق، بل الخيال والحلم.

والسمات المشتركة بين هذه المفاهيم هي دلالتها على قصيدة الرؤيا.

وقد تفرعت عن قضية النص الأساس ثنائيات ضدية يمكن تمثيلها كالآتي:

  • رؤيا / رؤيا أفقية : أي أن النظر إلى الحياة باعتبارها مشهدا أو ريفا أو نزهة أو موقفا أو مناسبة… نظر مختزل في أشكال ووظائف، وموقف فني وفلسفي كلاسيكي يتسم بالأفقية والسطحية، بيد أن الرؤيا تستلزم تجاوز العلاقة الشكلية والنفاذ إلى ما وراء ذلك من عوالم خفية ومغيبة ولا محدودة.
  • معنى خلاق وتوليدي/ معنى سردي وصفي : أي معنى يسرد الأشياء ويرتبها في الزمان، ويصفها في المكان وكأنها كيان مسطح له بعد واحد بخلاف المعنى الكشفي المشاغب.
  • الخيال والحلم / العقل والمنطق : فالعقل والمنطق يمكنان من تكوين معرفة موضوعية بالأشياء والحياة، بينما الخيال حدس بواقع ليس سوى إمكانات تتطور بشكل لا نهائي، ولا تسبر أغواره الخفية إلا بالخيال.

يمكن أن نستخلص من هذه القضايا السمات التي تميز قصيدة الرؤيا عن قصيدة الموضوع أو الموقف، وهي قيامها على إبداع صيغ تعبيرية جديدة، تلامس الواقع بحس ثوري وكشف عن الخفي ورؤية استشرافية.

الإطار المرجعي

صاغ الكاتب مفهوم الرؤيا استنادا إلى أطر مرجعية متنوعة وسمت مقاربته بالعمق النظري والكفاية التفسيرية الملائمة، ومنها:

  • التصوف : ومنه أخذ مفهوم الكشف
  • السوريالية / ما فوق الواقعية : التحلل من واقع الحياة الواعية، والزعم أن خلفها حياة أخرى أقوى فاعلية وأعظم اتساعا، وهي كامنة في اللاوعي، وتقوم على تحرير الواقع وإطلاق مكبوته وتسجيله في الأدب والفن. وعلى التعبير الغامض الذي يسبر كنه الأشياء المتواري خلف مظهرها السطحي المباشر المتجلي للعيان.
  • الرومانسية : جموح الخيال وتشعب العاطفة والتركيز على الذات وخصوصية الفرد النفسية والشعورية، حيث الأدب، وخاصة الشعر، ليس محاكاة للحياة والطبيعة، بل خلق، وأداة هذا الخلق ليست العقل ولا الملاحظة المباشرة، بل الخيال المبتكر أو المؤلف بين العناصر المشتتة في الواقع الراهن أو ذكريات الماضي، وفي إرهاصات المستقبل وآماله. والضابط هنا هو قوة الرؤيا الشعرية ووضوحها وعمقها على نحو يثير كوامن الشاعرية ويهز كيانه بحيث تصبح هذه الرؤية الشعرية بمثابة تجربة بشرية حقيقية صادقة. كما يؤكد هذا المذهب على التعبير الذاتي الصادق، والإعلاء من مكانة الحلم والخيال في التعبير عن الحياة والنفس. فالشاعر يساهم في رسم صورة للإنسان من خلال الثورة والتمرد على رواسب الماضي الثقافية والفنية..
  • الوجودية : تنكر ماهية الإنسان ولا تؤمن إلا بوجوده الآني؛ فأي جاهز أو متوارث لا قيمة له. وعلى الإنسان التخلص من كل ذلك لينطلق في الحياة ويحقق وجوده، فيصبح سيد لنفسه ومرجعيته ذاته، وهو أساس مفهوم الحداثة. والوجودية ترتكز على ثلاثة أعمدة، هي : الحرية، والمسؤولية، والالتزام، لذا من الطبيعي أن تنتج عنها عدة نتائج أو مشاعر خطيرة يحسها الفرد في سلوكه عبر الحياة. وهذه المشاعر هي : القلق، والهجران (أي الشعور بأنه وحيد مهجور)، واليأس (وإن كان الوجودي يعيش من أجل العمل في حد ذاته، كالصائد الذي يتلذذ بعملية الصيد ذاتها أكثر مما يتلذذ بعصفور أو سمكة يأكلها بعد صيده لها).
  • الرمزية : وهي في مجال الشعر تغذي خلق حالة نفسية خاصة والإيحاء بتلك الحالة في غموض وإبهام، والرمزية تكتفي بالإيحاء النفسي والتصوير العام عن طريق الرمز وتراسل الحواس. وتؤمن بعجز العقل الواعي عن إدراك الحقائق النفسية العميقة والمركبة، لذلك تتولى ممكنات اللغة وعملية نحت الصور والأخيلة من جزئيات الرموز والملفوظات المغربة هذه المهمة بفضل الخيال الخلاق الذي يتغلغل عبر الحدس والكشف إلى أعماق اللاوعي متجاوزا وظائف الأجهزة الإدراكية الحسية معدلا فيها ليبني رؤى شعرية بلغة أشبه بلغة الحلم.

طرائق العرض

جمع الكاتب بين النقد الوصفي والنقد المعياري في عرضه لقضيته، فمن الوصفي تحديده ماهية الشعر والقضايا المرتبطة بقصيدة الرؤيا ومقارنته بين شعر الرؤيا وغيره. واستعراض السمات المميزة لما يعتبره الشعر الحقيقي. ومن المعياري التوسل باللغة العلمية الموضوعية المبنية على خلفيات فلسفية وفكرية رائجة، واعتماد لغة اصطلاحية دقيقة، وتحاشي الأفكار المسبقة والأحكام المطلقة أو التصورات القابلة لتعدد التأويل، أو الدلالات الإيحائية، أو غير ذلك مما يحسب على النقد الانطباعي أو التفسيري أو الجمالي. واستعمل الناقد أسلوب المقارنة للتمييز بين مقومات الشعر التقليدي والشعر الجديد، شعر الرؤيا وشعر الحادثة والوقائع. وإذا كان قد استشهد بأقوال شعراء غربيين ينتمون إلى مذاهب مختلفة، فإن ذلك يعني تأثره بالثقافة الشعرية الغربية، ومحاولته صهر منطلقاتها وتصوراتها للإبداع وأدواته في تيار تجديد الرؤيا الذي يعد من رواده.

وظف الناقد حججا لتدعيم أطروحته ارتكزت على:

  • التعريف: تحديد ماهية شعر الرؤيا وإبراز أهم سماته ومميزاته، وتحديد بعض صفات الشاعر الجديد.
  • المقارنة : توسيم شعر الرؤيا بمقابلته بنقيضه (الشعر التقليدي)
  • التفسير: الاستناد إلى معايير جمالية في تحديد خصائص شعر الرؤيا كرفض الجاهز وخرق المألوف (اللغة الانزياحية) وتجنب الجزئية والنزعة العلامية والتوجيهية.

واعتمد الكاتب طريقة استنباطية تحليلية عرض فيها أولا مفهوم الرؤيا عامة، ثم انتقل إلى الحديث عن تجلياتها في التحققات الجزئية كالإحساس والحلم والخيال والصورة والتعامل مع الكلمة لتشويق المتلقي إلى معرفة خصائص المفهوم بصدمه في البداية باصطلاحه العام، ثم الكشف عن حقيقته عبر التدرج في وصف الجزئيات والخصائص لإقناع المتلقي بفاعلية الوصف.

التركيــــب

عرض الكاتب مفهوم قصيدة الرؤيا في سياق رده على معترضٍ ضمني، يُفترض أنه يتبنى مفهوم الشعر التقليدي، أو التحديث السطحي الذي يراهن على تغيير الشكل، ولا شك أن مقصديته هي تأسيس مفهوم جديد للشعر يضع حدا فاصلا بين الشعر التقليدي وقصيدة الرؤيا التي تقوم على ركوب المغامرة والكشف والثورة والتمرد على المواضعات الاجتماعية والأخلاقية والفنية والغموض والتجاوز والاستشراف.. وذاك ما يولد الشكل التعبيري. هكذا نتأكد من الفرضية التي انطلقنا منها، وهي مراهنة الناقد على اعتبار شعر الرؤيا شعر كشف وتمرد على الأشكال القائمة وأنظمة المعنى الموروثة بما تختزنه من تمثلات وقيم مستهلكة.

Ads
Ads Ads Ads Ads
Ads