Ads Ads Ads Ads

تكسير البنية نموذج شعري – تحليل قصيدة ‘لنكن أصدقاء’ لنازك الملائكة دروس النصوص – اللغة العربية

عنوان الدرس : تكسير البنية (نموذج شعري) – تحليل قصيدة ‘لنكن أصدقاء’ لنازك الملائكة

المادة : دروس النصوص – اللغة العربية

الشعبة: اداب وعلوم انسانية

المسالك: مسلك اداب ومسلك علوم انسانية

إشكالية النص وفرضيات القراءة

تكسير البنية حركة هزت مفهوم الشعر وطبيعته وعناصره الموضوعية ومعالمه الشكلية، فصارت شغل الشعراء والنقاد، وتفرقوا بين مؤيد ومعارض تنظيرا وتطبيقا، وأضحت مقياسا في إبداع الشعر وتقويمه في مرحلة الخمسينات من القرن العشرين وما بعدها على يد عديد من الشعراء العرب أمثال السياب ونازك والبياتي وحجازي وصلاح عبد الصبور وغيرهم . وتمثل نازك الملائكة (1923 ـ 2007) موقعا رياديا متميزا في حركة الشعر الحر، وبدأت تجربتها متأثرة بالرومانسية قبل أن تصبح من مؤصلي شعر التفعيلة. يصدح شعرها بمواقف إنسانية تصور هموم الإنسان الحديث وأزماته. خلفت تسعة دواوين، منها ( شظايا ورماد ) الذي منه هذه القصيدة. فما موقف الشاعرة من الواقع ؟ وكيف عبرت عنه فنيا ؟

نعتقد أن المعنى الاستلزامي الذي أفادته صيغة الأمر في العنوان هو التمني، أي ليتنا كنا أصدقاء، والعنوان لازمة بنائية تتكرر في مطالع مقاطع القصيدة، وتؤشر على انحراف في الموضوع عن الأغراض التقليدية. وفي المقطع الأول تغير إيقاعي ومحدد معماري يتمثل في اعتماد تفعيلة المتدارك (فاعلن) بصور مختلفة أساسا إيقاعيا في امتداد يطول أو يقصر وينتهي بوقفة حادة على صامت بعد مد طويل. ويتميز شكل القصيدة بناء على الملاحظة البصرية بتغير البنية الهندسية وشكلها الطوبوغرافي عبر اعتماد نظام الأسطر خلافا للقصيدة ذات الأشطر المتناظرة، مما يدفعنا إلى افتراض موقف شعري يختزنه النص، ويفترض أن من معالمه رفض الواقع المأساوي للإنسان بسبب الحروب والاستعباد والفقر، وتؤشر على ذلك مؤشرات نصية مثل: الدار ، العبيد، الجياع… والدعوة إلى التضامن والتسامح والتآخي بين البشر، موقف مصبوب في متواليات سطرية كسرت بنية النموذج العمودي. فهل استطاعت الشاعرة تجسيد الموقف الجديد في الشكل الجديد. وما نجاعة هذا التجديد؟ ذلك ما سنعالجه في تحليل النص.

فهم النص

تتكون القصيدة من ستة مقاطع شعرية. حيث يبتدئ المقطع الأول من السطر الأول إلى السطر السادس المعنون “بدعوة إلى الصداقة”، هذا المقطع يوحي لانفتاح القصيدة على المعاناة القاسية الكئيبة ودعوة الشاعرة للصداقة والمحبة الإنسانية التي تؤدي إلى السلام والطمأنينة بين البشر.

أما المقطع الثاني فهو من السطر السابع إلى السطر الثاني عشر عنونته هو “دعوة صريحة” حيث من خلال هذا المقطع تدعو الشاعرة نازك ملائكة إلى صداقة بين الشعوب من أجل السلام الدائم رغم الحروب المنتشرة.

وفي المقطع الثالث فهو من السطر الثالث عشر إلى  السطر السابع عشر فعنونه ب”كآبة الناس” وفي هذا المقطع تبين لنا الشاعرة أسى الناس على بلادهم التي أصبحت ممتلئة بالدماء بفعل المعاناة والألم التي تواجهها نتيجة الحروب.

ويتحدد المقطع الرابع من السطر الثامن عشر إلى السطر الرابع والعشرون وعنوانه هو “دعوة إلى الأمل” هنا الشاعرة تظهر لنا الأمل في انتهاء الحروب والمشاكل التي تواجه بلادها وعودة الحياة إليها من جديد.

أما المقطع الخامس فهو يتحدد من السطر الخامس والعشرين إلى السطر التاسع والعشرين فعنونه ب”الندم المتأخر” في هذا المقطع نجد ندما متأخرا للطغاة على أعمالهم وما اقترفت أيديهم في حق الفقراء والمظلومين.

وأخيرا المقطع السادس من السطر ثلاثين إلى السطر الثالث والخمسون المعنون ب”دعوة إلى صداقة عامة وكونية” وفيه تدعو الشاعرة دعوة عالمية وكونية إلى الصداقة رغم اختلاف الشعوب والبشر وتباين مكانتهم وبالتالي تكون الشاعر قد أسست لسلام دائم.

تحليل النص

المعجم

يتوزع النص حقلان دلاليان كبيران:

حقل الفوضى والدمارحقل البشارة والأمل
متاهات، الوجود الكئيب، الرهيب، الدمار، الفناء، الضحايا، دروب الأسى والأنين، الأشقياء، الدماء موكب الرازحين العبيد، الليالي، الجياع، العطاش، حفاة ، عراة، التائهون، المتعبون، الحائرون…الرجاء، أصدقاء، انتعاش، الآمنة، الساكنة، البشر، تسقي..

يدخل الحقلان في علاقة تكاملية إذْ إِنَّ أحدهما يكمـل الآخـر، كما أن هنـاك علاقـة أخرى بيـن الحقليـن وهي مبنيـة على قانون السبب والنتيجـة؛ حيث إِنّ (عالم الفوضى) بتجليـاته كان سبباً وراء دفـع الشاعـرة إلى نتيجـة تَمثَّلـتْ في حقـل (البشـارة والانعتـاق) لتَسْتشْـرِفَ به مستقبـلاً سلميـاً وعالـمـاً آمنـاً.

كما يتّضح أيضاً أن معجم النص زاخر بمختلف القيم والقوانين التي تَنْشُدها مبادئُ حقوق الإنسان مثل (الحرية – الحقّ في الحياة – تحرير العبيد – حقـوق الزّنـوج والجيـاع والعُـزَّل…).

الإيقاع

الإيقاع الخارجي

ركِبَتْ الشاعرة في النص تفعيلة المتدارك (فاعلن) بتغييراتها وزحافاتها المعروفة (فَعِلُنْ – فاعِلانْ – فَعْلُنْ)، مـع تنويع في طول الأسطر الشعرية وقصرها (أقصر الأسطر فيه تفعيلتان وأطولها خمس تفعيلات). أما القافية فقد جاءت في النص متتالية لأن الشاعرة استعملتْ الرّوي بشكل مُتَوالٍ في كل سطرين شعريين أو أكثر أحياناً، مع تنويع واضح في حرف الرّوي (الهمزة – الباء – القاف – الراء – الدال – التاء – الشين …). إضافة إلى توفُّر القصيدة على عنصـر الجمـلـة الشعرية، حيث يمكن اعتبار الأسطر (14 – 15 – 16 – 17 ) جملةً شعرية واحدة، وكذلك الأسطر (18 – … 24).

الإيقاع الداخلي

تحقّق في القصيدة بعدّة عناصر منها: (تكرار الحروف وتكرار الكلمات والصيغ الصّرفية، وتكرار جملة: “لنـكـن أصدقاء”، إضافة إلى بعض الطِّباقات مثل: (أصدقاء – أشقياء) (الصحاري – المدن)… وبعض الجِناسات: (الديار – البحار) (الثّلـوج – الزّنوج)… إلى جانب ما تميزت به القصيدة من تواز عمودي خاصة كالأسطر (36 – 37 – 38 – 39) والسطرين (48 – 49)…

الصورة الشعرية

استمدّتْ الصورة الشعرية شرارتها من المعاناة الإنسانية الذاتية والجماعية، ونَهَلتْ جماليّتَها وفنِّيَّتـها من أسلوبي الإيحـاء والرمز خاصة. وقد رسمت الشاعرة نازك بصور القصيدة الشعرية عالميْن مُتناقضيْن: عالم الخراب والدمـار، وعالـم السلام والتآخي، مُستغلّةً في ذلك أساليب بلاغية متنوعة كالمجاز والانزياح والاستعارة والتشخيص: (متاهات هذا الوجـود الكئيـب – يمشي الدمار ويحيا الفناء – تحت سوْط الزمان النَّزِق – لَفَظتْهم شِفاه الحياة – ستذوبُ لتسقي صدى الظّامئين كأْسـةً ولْتَكُـنْ مُلِئَـَتْ بالأنينْ…).

ولعلّ هذا المزج في الصورة الشعرية بين عالمي الخراب والسلام / المعاناة والأمل / الحزن والتفاؤل / الانكسار والطموح… هو ما جعل النص يكتسي نوعاً من الصراع الدرامي بين هذين العالميْن. هذا الصراع الذي يتكسّر ويخْمُد، وتضعُف معه سبل الدمار والخـراب كلما تكرّرتْ هذه اللازمة في القصيدة: (لِنكنْ أصدقاء)…

الأسـالـيـب

مما يميز شعر نازك الملائكة عموما امتزاج صوتها بصوت الناس أفراداً أو جماعات، وقد تحققتْ هذه الخاصية بجلاء في القصـيدة وهو ما يعكس مدى معانقة الشاعرة لقضايا الإنسانية في مختلف صورها الاجتماعية والمصيرية والواقعية والوجودية…

على مستوى ضمائر النص نلاحظ تكرار ضمير (نحن) باستمرار في القصيدة، وهذا يعني أن الشاعرة قد حوّلت تجربتـها الشعـرية الذاتية إلى تجربة جماعية، وهي ناطقة باسم جميـع المستضعفين والمظلومين والمتعبين. كما قد يعني ذلك أيضاً أننا جميعا مسؤولـون عن كل دمار وخراب في الواقع المعيش، وهو ما يتطلب حتْما أن نوحّد الجهود جميعا لتحقيق السلام والانعتاق (فلنكن أصدقـاء).

يُلاحظ على مستوى الأفعال في النص أن الشاعرة جمعت بين الأفعال الحاضرة والمستقبلية، على أن وظيـفة الأفعـال الحاضرة هي وصف ما في الحياة والواقع من دمار وخراب ومعاناة، بينما وظيفة الأفعـال المستقبلية هي تأكيد سعي الشاعـرة الحثيث إلى تحقيـق السـلام، ودعوتها الصادقة إلى التصالح والتآخي والاتحاد (لنكن أصدقاء).”

تركيب وتقويم

تنقل الشاعرة إلى المتلقي رسالة نبيلة تدعو إلى التضامن والتسامح والتآخي بين البشر. والمتلقي المفترض ينتظر منه أن يتعامل مع النص باعتباره كمونا دلاليا قابلا للتأويل وفق سياق خاص لتكتسب الرسالة عمقها الدلالي، من هنا راهنت قصيدة تكسير البنية على الأدوات الفنية التي عبرت بها الشاعرة عن هذا الموقف، فلجأت إلى إيقاع مسترسل يقوم على تكسير البنية التقليدية للقصيدة العربية، واللجوء إلى التفعيلة كمكون إيقاعي جوهري يتشكل في مدد زمنية تتنوع بين السطر والجملة الشعرية، تبعا للدفقة الشعورية ومقتضيات التعبير والصورة الموحية والوحدة العضوية للقصيدة، وغير ذلك مما يسهم في بناء نص حديث تراهن الشاعرة أن يكون تجديدا مقنعا في بناء معناه على ما يفترض أن القارئ يملكه من ثقافة حول موضوعه وجماليته . وبذلك تمهد الطريق لتطوير القصيدة عبر تجديد الرؤيا على يد شعراء آخرين. ونعتقد أن ذلك يفي بتبرير افتراضنا في بداية النص أن هذا الأخير موقف جديد في شكل جديد.

تكسير البنية (نص نظري) – تحليل نص ‘قضايا الإطار الموسيقي الجديد للقصيدة’ لعز الدين اسماعيل دروس النصوص – اللغة العربية

عنوان الدرس : تكسير البنية (نص نظري) – تحليل نص ‘قضايا الإطار الموسيقي الجديد للقصيدة’ لعز الدين اسماعيل

المادة : دروس النصوص – اللغة العربية

الشعبة: اداب وعلوم انسانية

المسالك: مسلك اداب ومسلك علوم انسانية

مدخل عام

تبلور خطاب تكسير البنية وتجديد الرؤيا في سياق ظروف وعوامل تاريخية وسياسية وثقافية واجتماعية محددة جاءت نتيجة جهود جماعية ملحة في التغيير وطلب البديل، واستجابة واندماجا في الصياغة الجديدة لحياة الإنسان الحديث ومستلزمات تطوره. فقد تأثر الشاعر المعاصر بحساسية العصر وذوقه ونبضه، وارتبط بقضاياه ارتباط المعايش لا الواصف، وعبر عن خبرة شعورية خاصة مصهورة في إطار عام. وحاول استكناه الحياة بدل الانفعال السطحي بها، فانفتح على الثقافات الإنسانية محددا موقفه منها، ورغب في تملك عصره فكريا ووجدانيا. وانطلق من مساءلة الممكن والاحتجاج على السائد، مما جعل شعره عنيفا وثوريا، فجاء هذا الخطاب بحثا عن سؤال جوهري هو كيف نتجاوز خيبة الهزيمة وأثرها السلبي؟ وسعيا إلى البحث عن آفاق إبداعية لا عهد للقصيدة بها. واقترانا بمفهوم جديد للإبداع والتجديد يخالف أنماط الخطابات السابقة التي استنفذت مسوغات وجودها جوهريا وقضويا وفنيا. فكان شعره تجسيدا لتجربة متميزة تتكسر في أفقها المعايير الإحيائية والرومانسية.

ومن بين أهم عوامل نشأة خطاب تكسير البنية وتجديد الرؤيا نذكر:

  • المد القومي وانـهيار المجتمع العربي التقليدي بحكم الغزو الأوربي؛ مما زرع الشك في نفوس المثقفين والمبدعين، وأسقط كل الوثوقيات العربية التقليدية والثوابت المقدسة والطابوهات الممنوعة.
  • الإحساس العام بمرارة الهزيمة خاصة بعد ضياع فلسطين عقب نكبة 1948 والعدوان الثلاثي على مصر 1956 وهزيمة 1967..
  • تحول هذا الإحساس إلى حساسية سياسية واجتماعية وثقافية جديدة تمثلت في ظهور طبقات اجتماعية جديدة (مثقفة، عمالية، تجارية، سياسية).
  • صعود المد الاشتراكي وانبثاق الحركات الوطنية والقومية ضد الهيمنة الاستعمارية.
  • الاحتكاك بالثقافات الأجنبية والتسلح بمعارف متنوعة (كالفلسفة والتاريخ والأساطير وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا، واستيعاب الروافد الفكرية الآتية من الشرق وبالضبط المذاهب الصوفية والتعاليم المنحدرة من الديانات الهندية والفارسية والحرانية / الصابئة)، فضلا عن الاستفادة من الفلسفة الوجودية والفلسفة الاشتراكية. مع الانفتاح على الثقافة الشعبية كسيرة عنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن وأبي زيد الهلالي، وكتاب ألف ليلة وليلة، والتعمق في القرآن الكريم، وقراءة الحديث النبوي الشريف، والشعر العربي القديم.
  • تراكم المحاولات التجديدية المهيئة للقفزة النوعية للقصيدة الحرة (الحركة الرومانسية بمدارسها المختلفة داخل وخارج الوطن العربي)
  • عدم قدرة الشكل التقليدي على النهوض بمضمون جديد، فقد صار شديد الارتباط بالمعاني التقليدية في التعبير عن العواطف الإنسانية حتى لم يعد ممكنا أن يحمل معنى جديدا، أو موقفا أو طريقة جديدة في التعبير.
  • انفتاح بعض المجلات على إبداع الشعراء الشباب، مثل: “شعر” و “الثقافة ” المصريتان، و”الآداب ” البيروتية.
  • تطلع الشعراء الشباب إلى قصيدة جديدة تستجيب للواقع الجديد، وتـقدم بدائل وحلولا للقضايا الاجتماعية والثقافية والجمالية.. تقول نازك الملائكة: “إن حركة الشعر الحر حصيلة اجتماعية محض، تحاول بها الأمة العربية أن تعيد بناء ذهنها العريق المكتنز على أساس حديث، شأنها في هذا شأن سائر الحركات المجددة التي تنبعث اليوم في حياتها في مختلف المجالات”.

سؤال البداية

إذا كان الدارسون يجعلون بدر شاكر السياب رائدا لحركة الشعر الحر، فإن هناك من يرجع بداياته الأولى إلى لويس عوض في قصيدته “العنقاء”، وبيرم التونسي في بعض مقاطع قصيدته “الكون” التي نشرها عام 1933، و أحمد باكثير في ترجمته لمسرحية “روميو وجولييت” سنة 1937.

وتقول نازك الملائكة في كتابها قضايا الشعر المعاصر: “إن بداية الشعر الحر سنة 1947 بالعراق ومن العراق، بل من بغداد نفسها، زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت العالم العربي”. وأشارت إلى أن أول قصيدة حرة في الوزن هي قصيدتها “الكوليرا”، التي نشرتها مجلة “العروبة” البيروتية في 27 يناير 1947، تصور فيها مشاعرها نحو مصر التي داهمها وباء الكوليرا.. وتقول فيها:

سكن الليل
اِصغ إلى وقع صدى الأنات
في عمق الظلمة تحت الصمت على الأموات

بعد ذلك صدر ديوان بدر شاكر السياب “أزهار ذابلة ” وفيه قصيدة من الوزن الحر بعنوان: “هل كان حبا؟ “، مؤرخة ب 29 نونبر 1946، معلقا على هامشها بقوله: ” في هذه القصيدة محاولة جديدة في الشعر المختلف الأوزان والقوافي، وهي كأغلب الشعر الغربي، وخاصة الإنجليزي، تجمع بين بحر من البحور ومجزوأته “، يقول فيها الشاعر:

هل يكون الحب أني
بت عبدا للتمني
أم هو الحب اطراح الأمنيات
والتقاء الثغر بالثغر ونسيان الحياة

مراحل الـتطـور

في أواسط الأربعينات كان الشعر الحر يجتاز أولى عتبات نموه بين أحضان الحس القومي والاجتماعي والإنساني العام، وبدأت الدعوة إلى القصيدة المعاصرة ترسي أسسها بمحاولات للخروج عن هيكل الشعر وبنائه، وتحريره من سيطرة الأوزان، واعتماد وحدة التفعيلة أساسا وزنيا بديلا عن العمود الخليلي بوحدة وزنه وقافيته ورويه وكان هذا ما اصطلح عليه بشعر تكسير البنية، الذي سعى إلى تغيير المعالم الشكلية للقصيدة القديمة معتمدة على التوفيق بين الوحدة العضوية وتناسق موسيقى اللفظ وإيقاع التفعيلة، وبين وظيفة الصورة في بناء الموقف والانفعال والتجربة. وهو الحد الأدني المتفق عليه بين رواد المنعطف الجديد في الشعر العربي فكانت أعمال نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، ويوسف الخال، وأدونيس.

لكن سرعان ما تشكلت ثورة جديدة من رحم حركة تكسير البنية تزعمها أدونيس أواخر الخمسينات من ق 20، وسار على دربه شعراء حاولوا بلورة رؤية جديدة للشعر والأدب، أمثال أحمد عبد المعطي حجازي في مصر، ويوسف الخال وخليل حاوي في سوريا ولبنان، وفدوى طوقان وسلمى الجيوسي في فلسطين، والمجاطي وعبد الله راجع والخمارالكنوني والسرغيني ومحمد بنيس وصلاح بوسريف وأحمد بلبداوي في المغرب. فكان أن أطلق أدونيس مفهوم قصيدة الرؤيا على هذا الشعر انطلاقا من هدم أسس التراث الشعري المعرفية والفنية والجمالية والإيقاعية وإعادة بنائها. وكان جوهر هذا الشعر هو التعبير عن معاناة الشاعر الحقيقية، وما تعيشه الإنسانية المعذبة. فقد أصبحت القصيدة تجربة إنسانية بما فرض عليها من أزمات وأحداث سياسية وحروب أثخنت المنطقة العربية، دون نسيان ضياع فلسطين والإحباط الذي ران على الفكر العربي، والافتتان بحضارة الغرب وثقافته، خصوصا المديني والاشتراكي والوجودي. وانخرطت القصيدة في مشروع ثقافي رؤيوي يتغيى التغيير والبحث عن بدائل تعبيرية للخروج من الأزمة وتوجيه سلوك القارئ وفكره وأسلوب حياته.

لم يعد الشعر على يد هؤلاء، إذن، مجرد تحول في الشكل وبناء المواقف عبر التجارب الإنسانية، بل أصبح الإنسان هو جوهر التجربة، إنها تجربة مع المستقبل عن طريق تشكل الرؤيا من خلال:

  • التجربة الحياتية: انطلاقا من الإحاطة بالواقع وفهمه فهما دقيقا وواعيا.
  • التجربة الشعرية: التي تمكن الشاعر من صياغة الرؤيا جماليا.
  • الحدس: عن طريق الإحساس بالواقع والقدرة على النفاذ إلى جوهر الأشياء.
  • الاعتماد على فكرتي الهدم والبناء.

ملاحظة النص

أول ما يمكن أن نلاحظه هو العنوان باعتباره العتبة الأولى للدخول إلى النص.. وهو يشي بالأفكار التالية:

  • القصيدة العربية ذات إطار موسيقي جديد، وهذا يعني أنها تخلت عن الإطار الموسيقي القديم.
  • الإطار الموسيقي الجديد يطرح عدة قضايا، وهذا يعني أن التحول الذي عرفته القصيدة العربية لم يكن محل إجماع نقدي.
  • النص يطرح هذه القضايا ويعالجها…

وثاني ما يمكن أن نلاحظه هو أن النص في سياق طرحه لقضايا الإطار الموسيقي الجديد للقصيدة إنما يسعى إلى كتابة تاريخ لموسيقى الشعر العربي.. وهذا ما تكشف عنه الفقرة الأولى حيث يتم تقسيم مسار تطور الشعر العربي موسيقيا إلى ثلاث مراحل..

وثالث ما يمكن أن نلاحظه هو الخاصية الحجاجية للنص والتي تتمثل في محاولة تصحيح بعض التصورات الخاطئة عن القصيدة العربية وإنصافها ورفع الظلم عنها.

فهم النص

ينقسم النص إلى عدة فقرات على الشكل التالي:

الأولى تنتهي عند “تفصيلا”

يقسم الكاتب مسار تطور موسيقى الشعر العربي إلى ثلاث مراحل هي:

  • مرحلة البيت الشعري ذي الشطرين المتوازيين عروضيا والذي ينتهي بقافية يشترك فيها مع باقي الأبيات الأخرى.. وفيه تتجلى كل المظاهر الجمالية لموسيقى الشعر العربي منذ بداياته..
  • مرحلة السطر الشعري وهو نتيجة لتفتيت البنية العروضية للبيت التقليدي بحيث لم يستبق منها سوى التفعيلة التي ترد مفردة في السطر أو مكررة في أعداد غير منضبطة.
  • مرحلة الجملة الشعرية وهي متطورة عن مرحلة السطر الشعري..

ثم يشير الكاتب إلى أن لكل مرحلة مشكلاتها الجمالية الخاصة والتي يعد بعرضها بالتفصيل..

الثانية تنتهي عند “العتيد”

يعرض الكاتب لجماليات موسيقى البيت التقليدي فينطلق من مسلمة هي أن النظام قوام الأعمال الفنية على اختلافها، وأن لكل فن وسائله الخاصة لتحقيق هذا النظام.. والنظام الموسيقي في القصيدة العربية قد تحدد في التزام عدد من القواعد الشكلية لضبط القوافي والأوزان.. وهذه القواعد هي المنظمة لموسيقى الشعر التقليدي.. وقد كان من بين ما وجه إلى القصيدة العربية الحديثة من انتقادات هو انها كسرت ذلك النظام وتورطت في الفوضى.

الثالثة تنتهي عند “عليه”

يقر الكاتب بأن القصيدة الحديثة تقوم بدورها على نظام يبرئها من التورط في الفوضى.. كما يشير إلى ان نظامها داخلي في مجمله لأنه ينتمي إليها ونابع منها وليس شيئا خارجيا مفروضا عليها..

الرابعة تنتهي عند “وهو نظام التفعيلة”

فيها يعرض الكاتب جماليات موسيقى السطر الشعري..فيعرفه بكونه تركيبة موسيقية للكلام لا ترتبط بأي شكل خارجي ثابت بل تتخذ الشكل الذي يرى الشاعر أنه يرتاح إليه ويعتقد أن القارئ يرتاح إليه بدوره.. والسطر الشعري ناتج عن تفتيت البنية العروضية للبيت التقليدي حيث لم يستبق منها سوى الوحدة الأساسية فيها وهي التفعيلة يفردها الشاعر في سطر ويكررها في آخر.. والفرق بين السطر الشعري والبيت التقليدي هو أن هذا الأخير له طول ثابت لأن عدد التفعيلات فيه لا يتغير من بيت إلى آخر عكس السطر الشطري الذي يتغير طوله بتغير عدد التفعيلات من سطر إلى آخر..

الخامسة تنتهي عند “من القصيدة”

فيها يعرض الكاتب جماليات موسيقى الجملة الشعرية فيقرر بأنها الصورة المتطورة عن مرحلة السطر الشعري.. فإذا كان هذا الأخير بنية موسيقية تشغل سطرا قد يقوم على تسع تفعيلات كحد أقصى، وإذا كان مكتفيا بذاته، فإن الجملة الشعرية بدورها بنية موسيقة مكتفية بذاتها غير أنها قد تمتد لتشغل خمسة أسطر أو أكثر..

ويشير الكاتب في نهاية هذه الفقرة إلى نيته في التوقف عند ما يسميه اعتبارات امتداد الجملة الشعرية..

السادسة تنتهي عند “لهذه الدفقة”

يذكر الكاتب بأن الدفقة الشعورية المعبر عنها قد تطول وتمتد حتى ليعجز البيت التقليدي المحدود الطول عن استيعابها كما لا يستطيع السطر الشعري ذلك مهما امتد وطال لأن أقصى حد لتفعيلاته هو تسع تفعيلات.

ويذكر أيضا بالمأزق الذي عاناه الشاعر التقليدي مع البيت التقليدي المحدود الطول بحيث أن هذا الشاعر كان مضطرا لتمزيق الدفقة الشعورة وتقسيمها على عدة أبيات وهذا ما كان يمنع من أن تفوز الدفقة الشعورية بالشكل الموسيقى المناسب لها..

السابعة تنتهي عند “بالجملة الشعرية”

ينطلق الكاتب من مسلمة هي أن التعبير ( الشكل ) ملك للشعور ( المحتوى = المضمون ) وتابع له.. وعليه فالدفقة الشعورية يجب أن تحظى بالصورة الموسيقية الملائمة لها.. فإن امتدت الدفقة امتدت الصورة الموسيقية.. ومن هنا كان الخروج إلى مرحلة السطر الشعري وسيلة فعالة لحل مشكلة الدفقة الشعورية القصيرة أو المتوسطة ؛ لكنها لم تحل مشكلة الدفقة الشعورية الممتدة مهما بلغ السطر من الطول.. وبما أن الدفقة تمتد أحيانا فتبلغ حدا لا يستطيع السطر استيعابه فقد كان لا بد من الخروج من مرحلة السطر إلى مرحلة الجملة الشعرية.

إشكالية النص وفرضيات القراءة

مهدت الرومانسية لتحديث الشعر العربي، وأعقبتها جهود مجموعة من الرواد عمدوا إلى تكسير بنيته، فتطويره مضمونا وشكلا. وهذا التحول الشمولي في جسم القصيدة العربية يطرح قضيتين: تتعلق الأولى بالنقاد الذين صاغوا المفاهيم المؤطرة للظاهرة، وتستفسر الثانية عن شكل هذا الجنين في إبداعات شعراء تشربوا تلك المفاهيم. وتعد نازك الملائكة من أوائل من خاضوا تجربة الصياغة النقدية والإبداعية لقصيدة التفعيلة (تكسير البنية) رغم مواجهة كثير من الرفض من قبل النقاد. ثم توالت أعمال نقدية، بعد أن صار الجنين رجلا مكتملا، تبرر التغيير الجذري في بنية الشعر العربي وتعرف بالظاهرة وتكشف أبعادها. ونذكر منها كتابات محمد النويهي وغالي شكري وعز الدين إسماعيل (1929 ـ 2007) الذي بدأ تنظيره للشعر الجديد في مرحلة مبكرة، فأنتج العديد من المؤلفات، نذكر منها (آفاق معرفية في الإبداع والنقد والأدب والشعر) و (التفسير النفسي للأدب) و (الأسس الجمالية في النقد العربي) و (الشعر في إطار العصر الثوري) وديوانين (دمعة للأسى ـ دمعة للفرح) و(هوامش في القلب). ويعد كتابه (الشعر العربي المعاصر: قضاياه وطواهره الفنية والمعنوية) من الأعمال النقدية التي بلورت رؤية شاملة لشعرنا المعاصر جمعت بين تاريخيته وبين قضاياه وأسسه الشكلية والمضمونية. والنص موضوع تحليلنا مأخوذ من هذا الكتاب. فما القضية التي يطرحها ؟ وما الإطار المرجعي الذي تستند إليه ؟

توحي مكونات العنوان ” قضايا الإطار الموسيقي الجديد للقصيدة ” بكون البنية الموسيقية للشعر ستتخذ في النص بعدا إشكاليا، وتتفرع إلى عدد من القضايا يتحكم فيها سياق الحداثة الشعرية. ذلك أن أهم ما وجه تجربة الشعر الجديد تكسيرها صورة النظام حسب منطوق مشير نصي يضيء دلالة العنوان ويؤشر على التغييرات الجذرية التي أحدثتها ثورة هذا الشعر على طبيعته ومفهومه بفعل تغيير بنيته وصورة نظامه. لذلك نفترض أن القضية المطروحة في النص تعنى بتطور البنية الإيقاعية داخل القصيدة الحديثة، وتداعيات هذا التطور على البنيات الأخرى الشعورية والنصية.

تكثيف معاني النص

يكشف النص عن جملة من القضايا النقدية هي:

  • تحديد مراحل تطور موسيقى الشعر العربي الحديث من البيت الشعري إلى الجملة الشعرية مرورا بالسطر الشعري
  • تفسير جماليات موسيقى البيت الشعري المتمثلة في نظام يلتزم بقواعد شكلية ضابطة للأوزان والقوافي
  • اعتبار تكسير الشعر الجديد لقواعد هذا النظام عملا غير فوضي، بل خلقا لنظام داخلي جديد.
  • تعليل جماليات موسيقى السطر الشعري بكونها تركيبة موسيقية للكلام تقوم على نظام التفعيلة المترددة الذي هو أساس النظام الصوتي في الشعر العربي القديم والحديث.
  • التنصيص على احتفاظ موسيقية الجملة الشعرية بالخصائص الموسيقية للسطر وتجاوزه في آن واحد، فهي تمتد أحيانا إلى أكثر من خمسة أسطر وهي بنية مكتفية بذاتها، وإن مثلت جزئية من بنية عضوية أعم هي القصيدة.
  • تفسير الناقد تنوع البنيات الموسيقية في الشعر سطرا وجملة باختلاف مدى الدفقة الشعورية.
  • تأكيد الكاتب أن ارتباط السطر والجملة الشعريين بالدفقة الشعورية يحقق تساوقا جماليا بين الشعور وصورة التعبير في مرونة وطواعية.

نستخلص مما سبق أن لتكسير البنية في الشعر العربي المعاصر مظاهر تتمثل في اعتماد نظام السطر الشعري كوحدة موسيقية مكتفية بذاتها، ولكنها تندرج ضمن وحدة عضوية أشمل، وكذلك اعتماد الجملة الشعرية كوحدة موسيقية أوسع تتسع لخمسة أسطر أو أكثر بالشكل الذي يحتوي الدفقة الشعورية، ويضيق به السطر الشعري.

تحليل النص

الإشكالية المطروحة

جماليات الشعر القديم والحديث مثار خلاف بين النقاد والأدباء، وخاصة منها البنية الإيقاعية والتشكيل الموسيقي للقصيدة الشعرية، نظرا لجوهريتهما في التعبير الشعري. فكان السؤال أيهما أفضل: الإيقاع القديم أم الجديد؟ وما مبررات تفضيل أحدهما على الآخر؟

لعل ما عمق النقاش في هذه الإشكالية أنها ألزمت النقاد بالتسلح في مناقشاتهم بخلفيات نظرية وأطر مرجعية ومفاهيم وتصورات لتدعيم مواقفهم، والمحصلة أن لكل نظام موسيقي، قديم أو جديد جماليته؛ مما يفرض عدم الاستهانة بأي منها، والبحث في قوانين كل منها، والغوص في عوامل تشكيلها وأشكال تحققها. من هنا تخللت النص إشارات إلى هذا المعطى الإشكالي وتلك المحصلة.

المفاهيم والقضايا

يحفل النص بمصطلحات عروضية قديمة (البيت، الشطران المتوازيان عروضيا، قافية مطردة، الأبيات، التفعيلة، الأوزان والقوافي…) ومصطلحات إيقاعية جديدة (الإطار الموسيقي، موسيقى الشعر، التفعيلة، السطر، الجملة الشعرية، نظام داخلي، بنية موسيقية مكتفية بذاتها…)، وتطرح هذه المصطلحات المتباينة قضية أساسية هي تكسير الشعر العربي الجديد لبنية إيقاع البيت الشعري، وبناء إطار موسيقي جديد. (وليس بناء موسيقى جديدة لها قوانينها النهائية، لأنها بذلك ستعلن موتها بتشكلها في وصفة عروضية جديدة جاهزة. وذلك غير ممكن أصلا). وهذه القضية تتفرع إلى قضايا صغرى منها:

  • الالتزام بقواعد العروض مقابل خرقها، حيث التزمت حركة الشعر الحر بعض القواعد الشكلية الضابطة للأوزان والقوافي وكسرت بالمقابل صورة ذلك النظام، ورغم نعت بعض النقاد هذا التكسير بالفوضى فإن الكاتب يرى في الإطار الموسيقي الجديد للقصيدة مقومات نظام آخر، إلا أنه نظام داخلي، ينبع من داخل القصيدة، وينقل شعور الشاعر وليس تصورا خارجيا مفروضا عليه.
  • خارج النص وداخل النص حيث للقصيدة نظام داخلي تمثله الظواهر المنبثقة عن بنية داخلية تشكل البنية العميقة للنص، أما خارج النص فكل المؤثرات والعوامل المشكلة لمرجعيته الثقافية والاجتماعية والفنية، ومنها يستمد الشاعر تصوره للإيقاع كبنية سطحية تنبثق مما هو جاهز، كالنظام العروضي المستلهم من القصيدة العمودية القديمة.
  • التجديد مقابل التقليد حيث التجديد استلهام روح العصرحين يستنفر الشاعر كل طاقته الانفعالية في شكل دفقات شعورية تنعكس في صورة التعبير في شكل أسطر أو جمل شعرية. أما التقليد فاستنساخ لبنى تعبيرية وقيم جمالية تتسم بالجمود والثبات وكأنها خارجة عن الزمن.
  • التساوق بين الشكل والمضمون، إذ كلاهما يستلزم الآخر في خصوصية عناصره، وإذن التجديد في المضمون يقتضي التجديد في الشكل.

ويتضح من خلال هذه القضايا الصغرى أن الكاتب يفسر تطور البنية الإيقاعية بالاستناد إلى التفعيلة كعنصر جوهري للإيقاع يتشكل في امتدادات زمنية ومكانية تتنوع بين البيت والسطر والجملة الشعرية بحسب الدفقة الشعورية ومقتضيات التعبير.

الإطار المرجعي

قضية التجديد في موسيقى الشعر من القضايا التي أثارت الجدل بين المهتمين منذ بداية القرن العشرين، ويمكن أن نرد إطارها المرجعي إلى:

  • إطار تاريخي، حيث تناول الكاتب القضية المطروحة من زاوية تاريخية (تطور البنية الموسيقية للقصيدة بعد الحرب العالمية الثانية) لرصد مراحل تطور موسيقى الشعر الجديد ومظاهرها.
  • إطار ثقافي غربي، حيث استند التجديد إلى جماليات القصيدة الغربية التي اتخذها الشعراء العرب نموذجا بذريعة ثقافية محكومة بالتبعية لما اعتبروه متقدما ومتجددا.
  • علم النفس حيث استدعى الكاتب في تفسير التجديد في موسيقى الشعر العامل النفسي بحديثه عن الدفقة الشعورية وطبيعة الشعور الذي تتحرك به النفس، وعلاقته بصورة التعبير، الذي هو ملك للشعور وتابع له.

إن هذه المرجعيات تتضافر في النص لتشكل موقفا نقديا يحكم نظر الكاتب إلى أحد أهم مقومات الشعر العربي قديمه وحديثه وأكثرها إثارة للجدل بسب أبعادها المعقدة. وركز على العامل النفسي مجسدا في ضرورات التعبير المرتهن إلى كتلة الدفقة الشعورية لتفسير تطور النظام الموسيقي للشعر الجديد، من التفعيلة والسطر كأساس لهذا النظام إلى الجملة الشعرية.

طرائق العرض

أسلوب النص علمي يتمثل في طابعه التفسيري والتحليلي والنقدي؛ فهو يتناول قضية تطور موسيقى الشعر العربي، ويبحث تجليات هذا التطور، ويعالج عوامله النفسية ومظاهره الجمالية. والتفسير من أبرز وسائل الاستدلال في النص، ويقوم على طرائق عديدة منها: التعريف (تعريف مفاهيم البيت الشعري ـ السطر الشعري ـ الجملة الشعرية..)، وإظهار شكلها وحجمها ووظيفتها الجمالية وخصائص كل منها. والوصف (وصف مظاهر النظام الموسيقي للشعر العربي وخصائصه)، والسرد (سرد مراحل تطور البنية الإيقاعية)، والتوارد (مقارنة تجليات الظاهرة الإيقاعية للشعر الحديث في البيت والسطر والجملة الشعرية).

وغاية الكاتب من أساليب التفسير هذه إقناعنا بموقفه النقدي وإضفاء طابع العمق العلمي على دراسته للظاهرة. وقد اعتمد الكاتب في معالجة قضية النص طريقة استنباطية تقوم على بناء المقدمات وتقديم الأدلة واستخلاص النتائج، فبدأ، في سياق حديثه عن جماليات موسيقى الشعر، بمقدمة نظرية عامة عن مظاهر البنية الإيقاعية في الشعر العربي القديم والحديث يؤكد فيها على النظام كسمة جوهرية في الأعمال الفنية، ثم يستدل له ويقرره في النهاية. وكذلك يفعل في كل محور، حيث يعرف الظاهرة، ثم يتتبع تفاصيلها فيرصد تطورها وعوامله وطبيعة تشكلها مقارنا بينها وبين أخرى، لينتهى إلى استخلاص معالم التشكيل الموسيقي الجديد المحكوم بمدى الدفقة الشعورية التي ضاق بها السطر واتسعت لها الجملة الشعرية الأرحب مسافة. ولا شك أن الوظيفة البنيوية لهذه الطريقة تكمن في ملاءمتها لطبيعة الموضوع كظاهرة جمالية متطورة تؤول تجلياتها إلى عوامل مجردة تتعلق بطبيعة المضمون والشكل والعلاقة الجدلية بينهما.

تركيب وتقويم

سعى الكاتب من خلال هذا النص إلى إيصال رسالة أساسية هي أن النظام الموسيقي للقصيدة العربية غير ثابت ولا جامد، بل هو قيمة جمالية وموسيقية متطورة بتطور العوامل النفسية المتحكمة في تجربة الشاعر وتجلياتها التعبيرية.. من هنا كان أساس الإيقاع في الشعر الحديث قائما على تفعيلة يتغير مداها الزمني وتوالي عددها فتتجلى نصيا بيتا أو سطرا أو جملة شعرية، ويبرر الناقد مشروعية اعتماد التفعيلة كأساس للنظام الموسيقي في الشعر الجديد بكونها تجسد ضرورات التعبير ومقتضيات الشعور. ويبدو أن أثر الجانب النفسي واضح في مرجعية الناقد، إذ فسر الظاهرة الإيقاعية تفسيرا سيكولوجيا وجماليا، ينطلق من أهمية العامل النفسي / الشعوري، وعلاقته بالتعبير في تشكيل الصورة الموسيقية للقصيدة الشعرية.

ويتقاطع الموقف النقدي في النص مع موقف محمد النويهي في معالجة نفس الموضوع (المكون الموسيقي) بمنطلقات متقاربة، ولكنهما يختلفان في قول عز الدين إسماعيل بجوهرية التفعيلة في أي نظام موسيقي سواء أكان البيت التقليدي أو السطر أو الجملة الشعرية. أما النويهي فيذهب إلى أن النظام الموسيقي انطلاق يقوم على تنويع الإيقاع بحسب المضمون الفكري والعاطفي. قد لا يصل إلى درجة التخلص تماما من أي ضابط وزني. لتتأكد فرضيتنا التي انطلقنا منها والتي تربط تكسير البنية الإيقاعية القديمة داخل قصيدة التفعيلة بمستلزمات شعورية وتعبيرية.

سؤال الذات (نموذج شعري) – تحليل قصيدة ‘إلى دودة’ لميخائيل نعيمة دروس النصوص – اللغة العربية

عنوان الدرس : سؤال الذات (نموذج شعري) – تحليل قصيدة ‘إلى دودة’ لميخائيل نعيمة

المادة : دروس النصوص – اللغة العربية

الشعبة: اداب وعلوم انسانية

المسالك: مسلك اداب ومسلك علوم انسانية

إشكالية القراءة

ظهرت حركة سؤال الذات في العالم العربي مطلع القرن العشرين نتيجة عوامل اجتماعية (ظهور الطبقة البورجوازية الصغيرة)، وسياسية (الاستعمار وضعف الطبقة السياسية..)، وفكرية (تطلع الجيل الجديد على التجديد)، وثقافية (التبشير بقيم جديدة تعيد الاعتبار إلى الفرد وتستلهم الآداب الأجنبية، خاصة الفرنسية والانجليزية). كما جاءت تعبيرا عن رد فعل حُيال الحركة الإحيائية المزدهرة وخطها التقليدي. ومن سمات خطاب سؤال الذات: الالتفات إلى الوجدان، والاهتمام بالطبيعة، وتطوير وظائف مكونات العمل الأبي لتكثيف نسقه الداخلي، واعتبار الشعر فيضا تلقائيا للعواطف، والخيال مرتعا للصورة الفنية، والاعتداد بالتجربة الذاتية في صياغة رؤية للحياة والقيم والجمال. ومرجع هذه السمات شيء من التصوف العربي وتعاليم المسيحية، والنزعات الإنسانية في الأدب الغربي، خاصة دعوة الذاتيين إلى المحبة والحرية، وثورتهم الوجدانية على التقاليد الأدبية والاجتماعية والدينية، وتضخيم ظاهرة الغربة وعوالم الحزن والاكتئاب، والحلم بعوالم مثالية كامنة في نقاء الطبيعة وامرأة ملاك.

والرابطة القلمية واحدة من حركات سؤال الذات، وهي جمعية أدبية أسسها الأدباء العرب المهاجرون في نيويورك عام 1924 برئاسة جبران خليل جبران، وكان ميخائيل نعيمة مستشارا لها، وإيليا أبو ماضي أمينا. استمر نشاطها عشرة أعوام. ثم توقف بسبب وفاة مؤسسها وتفرق أعضائها. بنى شعراء الرابطة القلمية روحا جديدة في الأدب العربي، فكان أدبهم صورة للمشكلات الإنسانية، والتأملات الفلسفية، وثورة على المعايير الكلاسيكية/ ومخزنا لثقافة واسعة، ونزعات روحانية عميقة. لقد سعى روادها إلى البحث عن معنىً جديد للحياة في ظل غربة مزدوجة بحثا تجسد في رفض القديم والتجديد الشعري في المضمون وطرائق التعبير. ومن أعلامها جبران خليل جبران، ونسيب عريضة، وإيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة فيلسوف الرابطة (1889 – 1989)، تأثر بأدب التصوف العربي، الشعر الأنجليزي (ووردز ورث، وكيتس، وكولريدج، وتشيلي) والروسي (تشيكوف). له مؤلفات في المسرح والقصة والنقد والشعر. منها كتاب نقدي بعنوان (الغربال) وديوان (همس الجفون) ومنه أُخذ النص. فما هي مضامين هذه القصيدة ؟ وما خصائصها الفنية ؟ وإلى أي حد مثلت خطاب سؤال الذات ؟

فرضيات القراءة

عنوان النص تطلع إلى التمثل بحال الدودة، لأنها تملك ما لا يملكه الشاعر، تملك اللامبالاة فلا تفكر في ظواهر الحياة. واستنادا إلى مشيرات نصية في الأبيات 2ء7ء12 يبدو الشاعر حائرا بين الشك واليقين، متسائلا عن جدوى الوجود وماهيته. مما يعكس مضمونا جديدا ينأى عن الأغراض القديمة ويغرق في تأمل وجداني متفلسف لكنه الحياة رغم انشداد هندسة النص إلى الإيقاع التقليدي المتناظر الشطرين. لذلك نفترض أن الشاعر ينقل تجربة ذاتية إلى المتلقي تعكس الحيرة والشك وتدعو إلى الاتعاظ بحال الدودة التي لا ترى في الحياة إلا وجودا بسيطا. فهل استطاع الشاعر أن يصب انفعالاته وتأملاته في صياغة جديدة.

اكتشاف المعنى وتكثيفه

في النص أربع تمفصلات دلالية كبرى نعرضها كالآتي:

  • الأبيات 1 – 8: مقابلة الشاعر حاله بحال الدودة، فهو ضعيف مضطرب الأحوال، متقلب بين الشك والإيمان، يجري نحو النهاية متعثرا يائسا، والدودة مطمئنة إلى حالها تنعم بالسكينة والهدوء.
  • الأبيات 9 – 15: تطلع الشاعر إلى سكينة الإيمان والفطرة وهدوئهما، ونفوره من وساوس الفكر ومتاعب الوجدان.
  • الأبيات 16 – 18: معاناة الشاعر بين حال القلب (التسليم) وصوت العقل العنيد ( الشك) معاناة يصرفها في التساؤل عن أسرار تساؤلا لا يجد له جوابا.
  • تأكيد الشاعر تساوي المخلوقات في المرتبة ما دام مصيرها واحد، وإن كانت مختلفة في المظاهر.

لعل في استدعاء الشاعر للدودة ومناجاتها بيانا لماهية الذات عنده، فهي بؤرة التجارب الحياتية، ومصدر التأمل في الحياة والطبيعة والكون، إنها محك لطرح أعمق الأسئلة الوجودية والفلسفية. ومن ثم يتضح أن موقف الشاعر النظر إلى مختلف الكائنات الحية من منظور وحدة الوجود، وهي فكرة فلسفية أكد عليها الفيلسوف الألماني هيجل.

التحليل

يتوزع معجم النص على حقلين دلاليين: حقل الذات (حال الشاعر)، وحقل الطبيعة (حال الدودة)

حقل الذاتحقل الطبيعة
أجري – جسمي الفاني – نعشي وأكفاني – عمري الفاني – أحزاني – متعثرا – أجتاز – ألاقي – إيماني – وجداني – أزحف – عيشي – جاهك – عمري – راكضا – أضناني – مستسلما – آمالي – أشباحي ..تدبين – دبيبك – أنت عمياء – أُختاه – ألوان – أشكال …

نلاحظ هيمنة ألفاظ حقل ذات الشاعر، وهذا راجع إلى التركيز على تجربة ذاتيه متماهىة وجوديا مع حال الدودة. والمواد المعجمية متداولة مألوفة، ومنبثقة من ذات الشاعر وليست مستوحاة من ذاكرته. وقد اتسم معجم النص ببعد فلسفي يعكس الصراع الداخلي لدى الشاعر (الشك في جدوى الحضارة الصناعية الحديثة – الإيمان – بوجود طبيعي للإنسان مغيب تحتضنه الطبيعة\ الدودة). فالمعجم إذن وليد التجربة، وهو مكون يعمل الشاعر من خلاله على كشف هواجس ذاته المترنحة بفعل ما طرأ عليها مما غير سيرها الطبيعي.

القصيدة من بحر الطويل بقافية وروي موحدين ومطلع مصرع مما يعكس استمرار الولاء للشكل الموسيقي القديم. وهيمنة صوت الياء الواصلة لحركة حرف الروي توفر جرسا موسيقيا تدعمه حركة الكسرة لتجسيد انكسار الذات وهي تتأمل مظاهر الطبيعة وتبثها قلقها وحزنها العميق على غياب الاطمئنان عن الذات وحضوره في الطبيعة رغم كون الذات والطبيعة يخضعان لنفس مبدأ الوجود. والجهر والغنة في صوت الروي [ن] يضفيان على القصيدة لحن حزن وشجن يرين على نفسية الشاعر وهو يقارن حاله الملخبط بحال الدودة الطبيعي. وتتشكل الموسيقى الداخلية للنص من بعض الظواهر الإيقاعية كالتوازي ” لك الأرض مهد والسماء مظلة ” ب 10 والتكرار (تدبين – دب / وفي كل يوم – وفي كل يوم / ضاقتا – تضيقا…)، وهذا التوازي والتكرار يلائم تجربة الشاعر الوجدانية الحبلى بالتناقضات. ويحقق دلالة التناظر بين حالي الشاعر والدودة.

بنى الشاعر صوره على آليات التصوير البيانية ومن أمثلتها: ” تدبين دب الوهن في جسمي – كنت قصيدا كاملا – أنت عمياء يقودك مبصر ” صور قائمة على المشابهة تنقل إحساس الشاعر بالضعف والسقوط والاستسلام أمام حقيقة الحياة التي استخلصها من الدودة التي تتمثل حقيقة الوجود الغائبة على المبصرين (الوجود الكامل الناضج). و“عبثث كف الزمان ببنياني”، “أترك أحزاني تكفن أحزاني “، ”فكر عنيد يجوب الأرض والجو والسماء” استعارات تجسد المعاني المجردة التي تعكس حالة الشاعر المأساوية، وهي أيضا قائمة على المشابهة وطاقتها الإيحائية أوسع من طاقة التشبيهات السالفة ووظيفتها شحن النص بكل أجواء التوتر الذي يخنق الذات. و”أبنى قصورا من هباء” كناية تقوم على علاقة المجاورة، وتدل على عبث الشاعر. ورغم جزئية هذه الصور واعتمادها على قواعد التمثيل البياني التقليدي إلا أنها ليست وصفية تزيينية، بل تعبيرية تخدم تجربة الشاعر، وتنقل أحاسيسه الذاتية وتساهم في بلورة رؤيته الوجودية.

لا يعدم النص إيحاء أخرج الطبيعة من إطارها الجمالي المستنسخ من الذاكرة الشعرية القديمة إلى دلالات تحولت معها إلى سجن للفكر. والمعاني الإيحائية كثيرة في النص(عمياء – مبصر) لفظتان توحيان بمعنى الجبر والاختيار في الحياة.

الشعراء الوجدانيون عبروا بالصور ووجهوها في اتجاهين؛ أولهما أُريد به الحد من تسلط التراث على أخيلة الشعراء، وثانيهما ربط هذه الأخيلة بآفاق التجربة الذاتية. من هنا نستنتج أن الشاعر، وإن انطلق من الأساليب البيانية التقليدية إلا أنه اعتمد خيالا جانحا لاقتناص المعاني الكفيلة بنقل تجربته الحياتية من خلال تأمل حال دودة.

حضور ضمير المتكلم يوحي بالطابع الذاتي والوجداني لمعاني النص، يعضده الأسلوب الخبري الذي يوجه وظيفة اللغة نحو الانفعال المرتبط بالذات في بعدها الوجداني والنفسي. وتعكس أفعال الحركة: (تدبين – أجري – أجتاز – راكضا – يقودك – أمشي – متعثرا – أزحف – يجوب…) رصد الشاعر لحركة الطبيعة من حوله رغبة في تجاوز حالة موت الذات بسبب اقتراب أجلها وتفشي المرض فيها. والأسماء الدالة على الوجدان: (آمالي – أحزاني – إيماني – أحزاني – شكي…) وظيفتها نقل حركة الذات المتماهىة مع الطبيعة، وكشف تناقضاتها وقلقها الوجودي.

وقد تقابلت معاني النص وفق منطق التضاد الذي تتجلى مظاهره في ما يلي:

  • التضاد الخارجي : بين الشاعر والدودة حيث حركته السريعة الحائرة مضادة لحركتها البطيئة المليئة بالعبر.
  • التضاد الداخلي: بين الشاعر ونفسه، بين همه الوجداني وتطلعه الوجودي.

ويتضح أن التضاد الداخلي هو البنية العميقة للنص، فهناك ذات متشظية تتناسل في بناء موحد الموضوع والإيقاع، لكون النص بؤرة تتوحد فيها المتناقضات، فالقصيدة عالم فني يعوض عن النقص الشامل في حياة الشاعر، إنها بؤرة التحولات في رحلة ذات الشاعر من الذات غير الطبيعية إلى النص.

التركيب والتقويم

من خلال تحليلنا لهذه القصيدة، يتبين لنا أنها مثلت خطاب سؤال الذات أو ما يعرف بالشعر أو الخطاب الرومانسي خير تمثيل نظرا لالتزامها بعدة خصائص ومميزات منها:

  • حضور الذات في أبعادها الوجدانية والفكرية بشكل جعل منها بؤرة لطرح الأسئلة الوجودية كانت الطبيعة محكا لاختبارها.
  • تعبير القصيدة عن المأزق الوجداني للذات بين المادة والروح، بين العقل والإيمان، بين العاطفة والفكر.
  • الشعور بالكآبة والحزن والضياع في حياة اجتماعية وإنسانية مليئة بالتناقضات، والحس المأساوي، والقلق الوجودي، والتطلع إلى الطمأنينة والتحرر من سجن الفكر وأسئلته المتقدة.
  • للطبيعة وجود مثالي في أبسط تمظهراتها (دودة) لما تختزله من دلالات وجودية، فكأن الذات لا تنكشف حقائقها إلا عبر تأمل الطبيعة.

وقد عبر الشاعر عن هذه المقصدية الفلسفية بأدوات فنية ظلت أقرب إلى التقليد منها إلى التجديد، وذلك رغم بوجدانية لغتها ووحدة بنائها وموضوعها ووظيفة الصورة الشعرية فيها المرتبطة بحركة الذات.

وعلى مستوى الشكل، أثمر هذا التيار مقومات ومميزات مكتملة وناضجة، لكن تألب التقليديين ورِدة بعض المجددين وسلطة النقد المحافظ وتماسك الوجود العربي التقليدي والانحباس داخل الذات السلبية القانعة واليائسة والمتألمة والمستسلمة والحالمة الخجولة، جعل من حركة سؤال الذات لا تساير المد القومي الثائر الذي عاشت في كنفه، فانتهت التجربة إلى الاضمحلال.

Ads
Ads Ads Ads Ads
Ads