المستوى: الجذع المشترك العلمي والتكنولوجي
المادة : الدورة الأولى – الفلسفة
عنوان الدرس : نشأة الفلسفة
تمهيد إشكالي
جرت العادة أننا عندما نريد أن نعرف شيئا ما، نسأل عن تاريخه (تاريخ تسميته، تاريخ حياته، تاريخ علاقاته، تاريخ صراعاته …)، لعل هذا يدلنا على المعرفة الحقة بذلك الشيء الذي نريد أن نعرفه، سنسلك الطريق نفسه مع سؤال:
- ما الفلسفة؟
- ماذا تعني هذه الكلمة؟
- أين بدأت؟
- وكيف تطورت؟
- وهل نستطيع أن نعرف الفلسفة إذا ما اكتفينا بتتبع مسارها التاريخي منذ لحظة ولادتها إلى يومنا هذا؟
- هل يكفي أن نعرف تاريخ الفلسفة لنقول إننا عرفنا ما هي الفلسفة؟
- هل يكفي أن نحفظ مقولات فلسفية عن ظهر قلب ونستظهرها في كل مرة، لنقول إننا نعرف الفلسفة؟
ربما قد نجد بعض الإجابات عن أسئلتنا إذا ما نحن تتبعنا تاريخ الفلسفة.
تقديم
الفلسفة لفظ استعارته العربية من اللغة اليونانية، وأصله في اليونانية كلمة تتألف من مقطعين:
- فيلوس: وهو بمعنى صديق أو محب.
- سوفيا: أي حكمة.
فيكون معناها (محب الحكمة)، وبذلك تدل كلمة الفلسفة من الناحية الاشتقاقية على محبة الحكمة أو إيثارها، وقد نقلها العرب إلى لغتهم بهذا المعنى في عصر الترجمة، وكان فيثاغورس (572 497 ق.م) أول حكيم وصف نفسه من القدماء بأنه فيلسوف، وعرف الفلاسفة بأنهم الباحثون عن الحقيقة بتأمل الأشياء، فجعل حب الحكمة هو البحث عن الحقيقة، وجعل الحكمة هي المعرفة القائمة على التأمل، وعلى هذا أضحى تعريف الفلسفة بأنها “العلم الذي يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية”، وتجدر الإشارة إلى أن كلمة الفلسفة استعملت في معاني متعددة عبر التاريخ، واتسع معناها في بعض المراحل ليستوعب العلوم العقلية بأسرها، فيما تقلص هذا المعنى في مراحل أخرى فاستعمل عند البعض كما في التراث الإسلامي فيما يخص الفلسفة الأولى، التي تبحث عن المسائل الكلية للوجود التي لا ترتبط بموضوع خاص.
نشأة الفلسفة
الفلسفة أو فيلوسوفيا..أين ظهرت؟ ومتى ظهرت؟ لماذا ظهرت في هذا البلد وليس في ذاك؟ لماذا في هذا الزمان دون غيره من الأزمنة؟ ما هي الشروط التي ساهمت في بروز هذا النمط من التفكير وفي انتشاره؟ وكيف تم الانتقال من التفكير الأسطوري إلى التفكير الفلسفي؟ ثم ما هو الجديد الذي حملته الفلسفة بصفة عامة معها بالقياس إلى أنواع التفكير التي كانت سائدة آنذاك؟ كيف نفسر فعل نشأة الفلسفة وانتشارها؟ هل بالحروب أم بالهجرات؟ أم بالثقافة السائدة آنذاك؟ أم بشكل النظام السياسي والاقتصادي؟ أم ببنية المدينة اليونانية وخصوصيات تركيبتها؟ أم ماذا؟
يتكون إطار نشأة الفلسفة من ثلاثة مجالات هي اللغة والمكان والزمان، وترتبط هذه المجالات باليونان القديمة، ففي بلاد اليونان، وفي بداية القرن السادس قبل الميلاد، وفي مدينتي “أثينا” و”ملطية” اليونانيتين ظهر بعض المفكرين الذين لم يهتموا بالأحداث والمظاهر ولكن بالمبادئ الكامنة وراء مختلف الأشياء، وكان يطلق على هؤلاء اسم حكماء طبيعيين، هؤلاء الحكماء الطبيعيون الذين اندهشوا من التغير الذي يطرأ على الأشياء، الأمر الذي دفعهم إلى البحث عن طبيعة تلك المبادئ بإرجاع المتعدد إلى الواحد والمتغير إلى الثابت، وهذا ما حاول “نيتشه” أن يبرزه في النص ص 15، إلا أن صفة الحكمة لا تنحصر في الحضارات اليونانية وحدها، بل سبقتها إلى ذلك حضارات وشعوب أخرى في الشرق القديم (الصين، الهند…)، غير أن تلك الحكمة ارتبطت عندهم بالأساطير والمقدسات الدينية فقط، وليس بالطبيعة كما حصل عند حكماء اليونان الأوائل، كان أول هؤلاء “طاليس” الذي أرجع أصل الأشياء كلها إلى عنصر واحد هو الماء، أما بالنسبة ل “انكسماندر” فقد اعتبر “اللانهائي” هو العنصر الأولي في الطبيعة، أما “أنكسماس” فقد قال بالهواء كعنصر أولي في الطبيعة، في حين قال “هيراقليطس” بالنار كعنصر أولي في الطبيعة …
وهكذا فمنذ بداية ظهور الحكمة سيتبين أنها جاءت معارضة للأساطير المفسرة لأصل العالم، لذا قدمت نفسها على شكل علم ومعرفة حقيقية بالطبيعة، هذه المعرفة هي التي سمحت للإنسان أن يحتل مكانه الحقيقي بين الآلهة والحيوانات في قلب العناصر الطبيعية، وفي القرن الرابع قبل الميلاد سيتم الانتقال من الحكمة إلى الفلسفة مع “سقراط” الذي يرجع إليه الفضل في إرساء أسس التفكير الفلسفي القائم على الحوار التوليدي، ورغم أن سقراط لم يخلف أثرا مكتوبا، إلا أن أفلاطون أحد تلامذته هو الذي خلده من خلال محاوراته الشهيرة.
وهكذا جاءت الفلسفة في بدايتها الأولى في القرن السادس قبل الميلاد لمعارضة ومواجهة الأسطورة ليحل اللوغوس (كلمة يونانية تعني الخطاب، المبدأ، العقل والعلم) محل الميتوس (كلمة يونانية تعني الأسطورة)، وهكذا سيحل اللوغوس الذي يستعمل البرهان من خلال توظيف الحجة محل الميتوس الذي يستعمل فيه السرد الخيالي، فاللوغوس ظهر بشكل بارز مع ظهور الخطاب المكتوب الذي يعتمد العقلانية والصرامة المنطقية والحجة والبرهان، وهذا ما يذهب إلى تأكيده “جون بيير فرنان”، بالإضافة إلى هذه العوامل هناك عامل آخر أساسي في ظهور نظام سياسي هو نظام الدولة المدينة حيث كانت تعتبر الساحة العمومية (أكورا) قلبها النابض، وفي هذه الساحة كان اللقاء يتم بين المواطنين لتبادل الرأي والمشورة ومناقشة كل قضاياهم الفكرية والسياسية والاجتماعية وكذا الاستمتاع بالمسرح والفنون عامة، مما أشاع الثقافة والمعرفة بين مواطني المدينة، ومن تم أصبحت السلطة والمعرفة شأنا عاما بعد أن كانت حكرا على عائلات وأسر معينة، وهكذا أظهرت الديموقراطية كنظام يحافظ على السير العام للمجتمع، وقد ساهم إلى جانب المدينة/الدولة، انفتاح المدن اليونانية وخاصة منها أثينا (نظرا لموقعها الجغرافي)على الدول المجاورة بفضل مينائها التجاري الذي يبوئها مكانة إستراتيجية بعد انتهاء الحروب وسيادة السلم عقب ذلك، في تطور وانتشار الفلسفة.