عنوان الدرس : تكسير البنية (نموذج شعري) – تحليل قصيدة ‘لنكن أصدقاء’ لنازك الملائكة
المادة : دروس النصوص – اللغة العربية
الشعبة: اداب وعلوم انسانية
المسالك: مسلك اداب ومسلك علوم انسانية
إشكالية النص وفرضيات القراءة
تكسير البنية حركة هزت مفهوم الشعر وطبيعته وعناصره الموضوعية ومعالمه الشكلية، فصارت شغل الشعراء والنقاد، وتفرقوا بين مؤيد ومعارض تنظيرا وتطبيقا، وأضحت مقياسا في إبداع الشعر وتقويمه في مرحلة الخمسينات من القرن العشرين وما بعدها على يد عديد من الشعراء العرب أمثال السياب ونازك والبياتي وحجازي وصلاح عبد الصبور وغيرهم . وتمثل نازك الملائكة (1923 ـ 2007) موقعا رياديا متميزا في حركة الشعر الحر، وبدأت تجربتها متأثرة بالرومانسية قبل أن تصبح من مؤصلي شعر التفعيلة. يصدح شعرها بمواقف إنسانية تصور هموم الإنسان الحديث وأزماته. خلفت تسعة دواوين، منها ( شظايا ورماد ) الذي منه هذه القصيدة. فما موقف الشاعرة من الواقع ؟ وكيف عبرت عنه فنيا ؟
نعتقد أن المعنى الاستلزامي الذي أفادته صيغة الأمر في العنوان هو التمني، أي ليتنا كنا أصدقاء، والعنوان لازمة بنائية تتكرر في مطالع مقاطع القصيدة، وتؤشر على انحراف في الموضوع عن الأغراض التقليدية. وفي المقطع الأول تغير إيقاعي ومحدد معماري يتمثل في اعتماد تفعيلة المتدارك (فاعلن) بصور مختلفة أساسا إيقاعيا في امتداد يطول أو يقصر وينتهي بوقفة حادة على صامت بعد مد طويل. ويتميز شكل القصيدة بناء على الملاحظة البصرية بتغير البنية الهندسية وشكلها الطوبوغرافي عبر اعتماد نظام الأسطر خلافا للقصيدة ذات الأشطر المتناظرة، مما يدفعنا إلى افتراض موقف شعري يختزنه النص، ويفترض أن من معالمه رفض الواقع المأساوي للإنسان بسبب الحروب والاستعباد والفقر، وتؤشر على ذلك مؤشرات نصية مثل: الدار ، العبيد، الجياع… والدعوة إلى التضامن والتسامح والتآخي بين البشر، موقف مصبوب في متواليات سطرية كسرت بنية النموذج العمودي. فهل استطاعت الشاعرة تجسيد الموقف الجديد في الشكل الجديد. وما نجاعة هذا التجديد؟ ذلك ما سنعالجه في تحليل النص.
فهم النص
تتكون القصيدة من ستة مقاطع شعرية. حيث يبتدئ المقطع الأول من السطر الأول إلى السطر السادس المعنون “بدعوة إلى الصداقة”، هذا المقطع يوحي لانفتاح القصيدة على المعاناة القاسية الكئيبة ودعوة الشاعرة للصداقة والمحبة الإنسانية التي تؤدي إلى السلام والطمأنينة بين البشر.
أما المقطع الثاني فهو من السطر السابع إلى السطر الثاني عشر عنونته هو “دعوة صريحة” حيث من خلال هذا المقطع تدعو الشاعرة نازك ملائكة إلى صداقة بين الشعوب من أجل السلام الدائم رغم الحروب المنتشرة.
وفي المقطع الثالث فهو من السطر الثالث عشر إلى السطر السابع عشر فعنونه ب”كآبة الناس” وفي هذا المقطع تبين لنا الشاعرة أسى الناس على بلادهم التي أصبحت ممتلئة بالدماء بفعل المعاناة والألم التي تواجهها نتيجة الحروب.
ويتحدد المقطع الرابع من السطر الثامن عشر إلى السطر الرابع والعشرون وعنوانه هو “دعوة إلى الأمل” هنا الشاعرة تظهر لنا الأمل في انتهاء الحروب والمشاكل التي تواجه بلادها وعودة الحياة إليها من جديد.
أما المقطع الخامس فهو يتحدد من السطر الخامس والعشرين إلى السطر التاسع والعشرين فعنونه ب”الندم المتأخر” في هذا المقطع نجد ندما متأخرا للطغاة على أعمالهم وما اقترفت أيديهم في حق الفقراء والمظلومين.
وأخيرا المقطع السادس من السطر ثلاثين إلى السطر الثالث والخمسون المعنون ب”دعوة إلى صداقة عامة وكونية” وفيه تدعو الشاعرة دعوة عالمية وكونية إلى الصداقة رغم اختلاف الشعوب والبشر وتباين مكانتهم وبالتالي تكون الشاعر قد أسست لسلام دائم.
تحليل النص
المعجم
يتوزع النص حقلان دلاليان كبيران:
حقل الفوضى والدمار | حقل البشارة والأمل |
متاهات، الوجود الكئيب، الرهيب، الدمار، الفناء، الضحايا، دروب الأسى والأنين، الأشقياء، الدماء موكب الرازحين العبيد، الليالي، الجياع، العطاش، حفاة ، عراة، التائهون، المتعبون، الحائرون… | الرجاء، أصدقاء، انتعاش، الآمنة، الساكنة، البشر، تسقي.. |
يدخل الحقلان في علاقة تكاملية إذْ إِنَّ أحدهما يكمـل الآخـر، كما أن هنـاك علاقـة أخرى بيـن الحقليـن وهي مبنيـة على قانون السبب والنتيجـة؛ حيث إِنّ (عالم الفوضى) بتجليـاته كان سبباً وراء دفـع الشاعـرة إلى نتيجـة تَمثَّلـتْ في حقـل (البشـارة والانعتـاق) لتَسْتشْـرِفَ به مستقبـلاً سلميـاً وعالـمـاً آمنـاً.
كما يتّضح أيضاً أن معجم النص زاخر بمختلف القيم والقوانين التي تَنْشُدها مبادئُ حقوق الإنسان مثل (الحرية – الحقّ في الحياة – تحرير العبيد – حقـوق الزّنـوج والجيـاع والعُـزَّل…).
الإيقاع
الإيقاع الخارجي
ركِبَتْ الشاعرة في النص تفعيلة المتدارك (فاعلن) بتغييراتها وزحافاتها المعروفة (فَعِلُنْ – فاعِلانْ – فَعْلُنْ)، مـع تنويع في طول الأسطر الشعرية وقصرها (أقصر الأسطر فيه تفعيلتان وأطولها خمس تفعيلات). أما القافية فقد جاءت في النص متتالية لأن الشاعرة استعملتْ الرّوي بشكل مُتَوالٍ في كل سطرين شعريين أو أكثر أحياناً، مع تنويع واضح في حرف الرّوي (الهمزة – الباء – القاف – الراء – الدال – التاء – الشين …). إضافة إلى توفُّر القصيدة على عنصـر الجمـلـة الشعرية، حيث يمكن اعتبار الأسطر (14 – 15 – 16 – 17 ) جملةً شعرية واحدة، وكذلك الأسطر (18 – … 24).
الإيقاع الداخلي
تحقّق في القصيدة بعدّة عناصر منها: (تكرار الحروف وتكرار الكلمات والصيغ الصّرفية، وتكرار جملة: “لنـكـن أصدقاء”، إضافة إلى بعض الطِّباقات مثل: (أصدقاء – أشقياء) (الصحاري – المدن)… وبعض الجِناسات: (الديار – البحار) (الثّلـوج – الزّنوج)… إلى جانب ما تميزت به القصيدة من تواز عمودي خاصة كالأسطر (36 – 37 – 38 – 39) والسطرين (48 – 49)…
الصورة الشعرية
استمدّتْ الصورة الشعرية شرارتها من المعاناة الإنسانية الذاتية والجماعية، ونَهَلتْ جماليّتَها وفنِّيَّتـها من أسلوبي الإيحـاء والرمز خاصة. وقد رسمت الشاعرة نازك بصور القصيدة الشعرية عالميْن مُتناقضيْن: عالم الخراب والدمـار، وعالـم السلام والتآخي، مُستغلّةً في ذلك أساليب بلاغية متنوعة كالمجاز والانزياح والاستعارة والتشخيص: (متاهات هذا الوجـود الكئيـب – يمشي الدمار ويحيا الفناء – تحت سوْط الزمان النَّزِق – لَفَظتْهم شِفاه الحياة – ستذوبُ لتسقي صدى الظّامئين كأْسـةً ولْتَكُـنْ مُلِئَـَتْ بالأنينْ…).
ولعلّ هذا المزج في الصورة الشعرية بين عالمي الخراب والسلام / المعاناة والأمل / الحزن والتفاؤل / الانكسار والطموح… هو ما جعل النص يكتسي نوعاً من الصراع الدرامي بين هذين العالميْن. هذا الصراع الذي يتكسّر ويخْمُد، وتضعُف معه سبل الدمار والخـراب كلما تكرّرتْ هذه اللازمة في القصيدة: (لِنكنْ أصدقاء)…
الأسـالـيـب
مما يميز شعر نازك الملائكة عموما امتزاج صوتها بصوت الناس أفراداً أو جماعات، وقد تحققتْ هذه الخاصية بجلاء في القصـيدة وهو ما يعكس مدى معانقة الشاعرة لقضايا الإنسانية في مختلف صورها الاجتماعية والمصيرية والواقعية والوجودية…
على مستوى ضمائر النص نلاحظ تكرار ضمير (نحن) باستمرار في القصيدة، وهذا يعني أن الشاعرة قد حوّلت تجربتـها الشعـرية الذاتية إلى تجربة جماعية، وهي ناطقة باسم جميـع المستضعفين والمظلومين والمتعبين. كما قد يعني ذلك أيضاً أننا جميعا مسؤولـون عن كل دمار وخراب في الواقع المعيش، وهو ما يتطلب حتْما أن نوحّد الجهود جميعا لتحقيق السلام والانعتاق (فلنكن أصدقـاء).
يُلاحظ على مستوى الأفعال في النص أن الشاعرة جمعت بين الأفعال الحاضرة والمستقبلية، على أن وظيـفة الأفعـال الحاضرة هي وصف ما في الحياة والواقع من دمار وخراب ومعاناة، بينما وظيفة الأفعـال المستقبلية هي تأكيد سعي الشاعـرة الحثيث إلى تحقيـق السـلام، ودعوتها الصادقة إلى التصالح والتآخي والاتحاد (لنكن أصدقاء).”
تركيب وتقويم
تنقل الشاعرة إلى المتلقي رسالة نبيلة تدعو إلى التضامن والتسامح والتآخي بين البشر. والمتلقي المفترض ينتظر منه أن يتعامل مع النص باعتباره كمونا دلاليا قابلا للتأويل وفق سياق خاص لتكتسب الرسالة عمقها الدلالي، من هنا راهنت قصيدة تكسير البنية على الأدوات الفنية التي عبرت بها الشاعرة عن هذا الموقف، فلجأت إلى إيقاع مسترسل يقوم على تكسير البنية التقليدية للقصيدة العربية، واللجوء إلى التفعيلة كمكون إيقاعي جوهري يتشكل في مدد زمنية تتنوع بين السطر والجملة الشعرية، تبعا للدفقة الشعورية ومقتضيات التعبير والصورة الموحية والوحدة العضوية للقصيدة، وغير ذلك مما يسهم في بناء نص حديث تراهن الشاعرة أن يكون تجديدا مقنعا في بناء معناه على ما يفترض أن القارئ يملكه من ثقافة حول موضوعه وجماليته . وبذلك تمهد الطريق لتطوير القصيدة عبر تجديد الرؤيا على يد شعراء آخرين. ونعتقد أن ذلك يفي بتبرير افتراضنا في بداية النص أن هذا الأخير موقف جديد في شكل جديد.