عنوان الدرس : الانزياح
المادة : الدرس اللغوي – اللغة العربية
الشعب: علوم التجربية وعلوم رياضية والعلوم والتكنولوجيات الميكانيكية والكهربائية وعلوم الاقتصاد والتدبير
المسالك: علوم فيزيائية وعلوم الحياة والارض وعلوم زراعية وبقية المسالك العلمية والتقنية
مفهوم الانزياح
ينقسم الكلام إلى متداول مألوف يتميز بالوضوح و الشفافية، وكلام منزاح عن المألوف و المتداول. و يسمى المألوف والمتداول معيارا، ويسمى خرقه انزياحا أي ابتعادا عن المعيار. والمعيار هو كل ما ينتمي الى سنن اللغة أو الأعراف أو المنطق. و تتحقق الانزياحات في مختلف أنواع الخطابات، لكنها أكثر كثافة في النصوص الإبداعية ومتقلصة في الكتابات العلمية.
الانزياح لغةً مصدرٌ للفعل المطاوع”انزاح”؛ أي ذهب وتباعد. واصطلاحاً في النقد الحديث: هو استعمال المبدع للغةِ مفردات وتراكيبَ وصوراً، استعمالاً يخرج بها عمّا هو مُعتاد ومألوف بحيث يؤدّي ما ينبغي له أن يتّصف به من تفرد وإبداع وقوّة جذب وأسر.
أنواع الانزياح
الانزياح الاستبدالي (الدلالي)
ويمثله المجاز، والمجاز المقصود هي المفردة حصراً وهي تلك التي تقوم على كلمة واحدة ( التي تستعمل بمعنى مشابه لمعناها الأصلي ومختلف عنه)، ويمثل كوهن لهذا النوع من الانزياح بالتالي: هذا السطح الهادئ الذي تمشي فيه الحمائم. فالسطح هو البحر والحمائم هي السفن، وجمالية البيت تكمن في هذه المفردات فلو قال :” هذا البحر الهادئ الذي تمشي فيه السفن (البواخر) لما شعرنا بأية شاعرية.
تجدر الإشارة إلى أن المجاز موجود منذ القدم فأرسطو يقول: “أعظم الأساليب حقاً هو أسلوب المجاز…، هو وحده الذي لا يمكن أن يستفيد المرء من غيره، وهو آية الموهبة”. أما تعريفه له أنه “نقل اسم شيء إلى شيء آخر”، فلو حاكمنا هذا التعريف بما انتهت إليه البلاغة العربية يكون معادلاً للمجاز اللغوي الذي يشمل الاستعارة والمجاز المرسل بالإضافة للكناية.
الانزياح التركيبي
من المعروف أن تركيب العبارة الأدبية عامة والشعرية منها على نحو خاص، يختلف عن تركيبها في الكلام العادي أو في النثر العلمي . فالشاعر، على حد قول كوهين، شاعر ” بقوله لا بتفكيره وإحساسه، وهو خالق كلمات وليس خالق أفكار، وعبقريته كلها إنما ترجع إلى إبداعه اللغوي”. بيد أن الكلام لا ينبغي أن يؤخذ على حرفيته، فيُظن بأن من طبيعة الشعر أن يخلو من الفكر، لأن مثل هذا الظن هو من قبيل المغالطة.
إن الانزياحات التركيبية في الفن الشعري تتمثل أكثر شيء في التقديم والتأخير، ومن المعروف أن في كل لغة بنيات نحوية عامة ومطردة، وعليها يسير الكلام : فالفاعل في العربية مثلاً يكون تالياً لفعله، وسابقاً مفعوله غالباً، إن كان الفعل متعدياً؛ على حين هو في الإنكليزية متصدر للجملة؛ أي أنه مبتدأ يتلوه فعل فمفعول… وهكذا. ويجب التنبيه إلى أن ليس كل عملية قلب تعد انزياحاً فهو يقول : “ينبغي لكي ينتج القلب أثره أن نعطيه ذلك الاتساع الذي تشير إليه البلاغة باسم الاعتراض”، ويضرب لنا كوهن مثلاً عن عملية القلب وأثرها على الجملة : تحت جسر ميرابو يتدفق السين. ويقارنها بالجملة الأصلية، فيرد الكلمات إلى أماكنها الصحيحة، فيقول: السين يتدفق تحت جسر ميرابو.
والسؤال لماذا نشعر أن التركيب الأول أكثر شاعرية من الثاني؟
هل لمجرد مخالفته الاستعمال الشائع، ويقول الدكتور أحمد محمد ويس: إن المخالفة وحدها غير كافية لتوليد الشاعرية، ولابد من أن تكون وراء المخالفة قيم فنيّة وجماليّة، إذ ليس بالضرورة أن تكون المخالفة حباً لتميُّزٍ أو تفرد فحسب، والغالب أن يكون وراءها غاية فنية تعبِّر عن شيء في النفس.
ومما يدخل ضمن أشكال الانزياحات التركيبية من أسلوب إلى آخر انتقالاً مفاجئاً يستهدف إحداث تأثير فني ، من مثل ما كان يقوم به إليوت حين كان ينقل أسلوبه في مسرحياته عامداً من مستوى إلى آخر، فينتقل مثلاً من النظم الشعري إلى اللهجة الدارجة، كي يتحقق له نوع معين من التأثير، وواضح أن مثل هذا الانتقال ببنية العمل الفني على نحو عام. وشبيه بهذا الأسلوب أسلوب آخر كان يقوم به بعض مؤلفي العصر الإليزابيثي مما عرف بـ” الترويح الكوميدي” في المأساة، بالإضافة لظاهرة الالتفات في الرواية الحديثة ابتداءً من جيمس جويس وفرجينيا وولف خاصة. ومن ذلك ” طريقة التصوير الحر” لدى السرياليين في انتقالاتهم المفاجئة وتحريكهم لعناصر الواقع فيما يعرف بالخط الزماني والمكاني.
معيار الانزياح
وهاهنا نحن أمام قضية ليس من اليسير حلها، وهي أن الفن قائم على معيار نفسي، في حين يعتمد العلم المعيار المنطقي.
فكيف سيُعرف الانزياح؟ وهل له معيار يُعرف به؟
للخروج من هذه الأزمة علينا أن نستجلي الفروق بين كل من الخطاب الأدبي والخطاب العادي، وسنجد أننا أمام آراء كثيرة تؤكدها، فمن ذلك ما ارتآه تودوروف حين اعتبر ” أن الحديث اللساني –العاديء خطاب شفاف نرى من خلاله معناه ولا نكاد نراه هو في ذاته، فهو مَنْفَذٌ بِلَّوري شفاف لا يقوم حاجزاً أمام أشعة البصر، بينما الخطاب الأدبي في كونه ثخيناً غير شفاف، يستوقفك هو نفسه قبل أن يمكنك من عبوره أو اختراقه، فهو حاجز بلوري طُلِيَ صوراً ونقوشاً وألواناً، فصدَّ أشعة البصر أن تتجاوزه”.
وفي هذا السبيل ذاته نجد مؤلفي البلاغة العامة يقولون: إن الذي “يميز الخطاب الأدبي هو انقطاع وظيفته المرجعية، لأنه لا يرجعنا إلى شيء ولا يبلغنا أمراً خارجياً، وإنما هو يبلغ ذاته، وذاته هي المرجع والمنقول في نفس الوقت، ولما كفَّ النص عن أن يقول شيئاً عن شيء إثباتاً أو نفياً فإنه غَدَا هو نفسه قائلاً ومقولاً”.
وظيفة الانزياح
وظيفة الانزياح تخدم – في المقام الأول – النص ومتلقي النص.
ولا حرج في أن نسارع إلى القول أن الوظيفة الرئيسة التي أكثرت الدراسات الأسلوبية من نسبتها إلى الانزياح، إنما هي ” المفاجأة” . وغني عن البيان أن مفهوم المفاجأة مرتبط أصلاً بالمتلقي، وهو الذي أولَتْهُ الأسلوبية وغيرها من المدارس النقدية عناية خاصة، بل أدخلته ضمن دائرة الإبداع، بعد أن لم يكن له في العصور السالفة كبيرَ اعتبارٍ للمتلقي.
ويمكننا القول أن النقّاد القدماء قد عرفوا أهمية هذا المصطلح –في وجوهه القديمةء، وما يُنتجه من مُفاجأةٍ للمتلقي، ولكنهم لم يعرفوه كما عرفناه نحن، وإنما عرفوه بمصطلحات عديدة مجزّأة مبعثرة.
إذاً إن اليونانيين القدماء، ومن بعدهم العرب، وأخيراً الغرب قد عملوا خلال هذه الآلاف من السنين، لتطوير هذا المصطلح حتى غدا على هذا الشكل؛ أي أنه نتاج حضاري ثقافي شاركت فيه جميع الأمم، وليس مخصوصاً بأمَّةٍ معيّنة دون أخرى.